أخرى سابقة لها، كما يعتقد جمهور الناس الآن في الحياة والكائنات الحية
فكانوا في ذلك الماضي البعيد إذا شاهدوا حريقاً نشأ مثلاً بفعل العوامل الطبيعية كانقضاض صاعقة على شجيرة يابسة أو على كمية من الحطب أو الحشائش الجافة، يوقدون منه ناراً دائمة في مغاورهم ومساكنهم يتخذونها كخميرة يولدون منها النار كلما أرادوا إحداثها لحاجاتهم الشخصية، وهذا هو منشأ عقيدة عبادة النار التي تسلسلت منها عادة المحافظة على مصابيح أو شموع صغيرة تضاء في المعابد والمساكن لأغراض دينية
ومع أن الإنسان اكتشف بعد ذلك الوسائل الاصطناعية لإحداث النار كلما شاء إلا أن تلك العادة ما زالت باقية إلى الآن، شأن كل فعل أو صفة مكتسبة يجري العمل عليها الزمن الطويل فإنها تتأصل وتصبح آليةً، وعلى هذا النحو نشأت الغرائز في الحيوانات والإنسان كما شرحنا ذلك في مقالنا الأخير عند الكلام على نشوء الغريزة الاجتماعية والأخلاقية في الإنسان والحيوانات الاجتماعية الأخرى كالقرود العليا والنمل
وهكذا الحال بالنسبة للحياة؛ فأنه نظراً لعجزنا الحالي المؤقت عن تكوين المادة الحية اصطناعية، نظن أنها سر من وراء الطبيعة، وأنها تختلف عن باقي ظواهر الكون وأنها لم تظهر على الأرض بفعل العوامل الطبيعية، بل هي من عالم آخر كما يتوهمون. فنحن الآن بالنسبة للحياة على ما كان عليه أجدادنا البعيدون بالنسبة للنار قبل اكتشاف وسائل إحداثها اصطناعياً.
على أن هذا كل الوهم سوف ينقشع ويتلاشى في المستقبل حين يتوصل العلماء نهائياً إلى تركيب المادة الحية في معاملهم. وقد بينا فيما تقدم وفي المقالات السابقة أنهم أوشكوا أن يصلوا إلى هذه النتيجة الهامة حيث خطوا خطوات تذكر في هذا السبيل فقد صنعوا كيميائياً بعض المواد الزلالية سالفة الذكر وهم في طريق صنع المواد الزلالية العليا المسماة (بالمواد الحية). ومتى وصل العلم إلى ذلك الحد تصبح الحياة ظاهرة طبيعية في نظر جمهور الناس ينظرون إليها كما ننظر إلى النار الآن بعد اكتشاف الوسائل التي تجعلنا نحدثها كلما شئنا.