للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن الجزر البريطانية تألفت سكانها في القرن الثاني عشر من نفس العناصر التي تتألف منها في القرن العشرين، إلا في اليسير الحقير، وقد كانت في أوائل القرن السادس عشر جزراً لا شأن لها ولا خطر، ولم يمض على ذلك العهد غير قرنين حتى وجدناها قوة عظيمة في دول العالم، فكيف جاءها هذا الشأن وذلك الخطر، والعنصر هو هو لم يتغير؟ أليست العوامل التاريخية والجغرافية إذن أبعد أثراً من كل ما عداها؟ كانت الجزر البريطانية في طرف أوربا، والحضارة متركزة في شرق البحر الأبيض أو وسطه، فلم يكن لبريطانيا ذلك المساس الذي لا بد منه لاشتعال الثقاب، لذلك لم يكن لها في الحضارة قول كبير ولا عمل خطير، ثم استكشفت أمريكا، وبين عشية وضحاها انقذفت بريطانيا في وسط المسرح العالمي، فلم يكن لها بد من تمثيل دورها، وانتقل مركز المدنية إلى غرب أوربا حيث بقي ويبقى سنين طوالاً، حتى أصبحت لفظة الغرب علماً على المدنية، وأصبحت إنجلترا قائدة الأمم، وإن كان لعنصرها الجرماني أثر في هذا الانقلاب، فهو لا يقارب في شدته الأثر الذي للحوادث والتاريخ والجغرافيا معاً. ولنفس تلك الأسباب زالت عن إيطاليا تلك السيادة التي كانت لها يوم تربعها في وسط المسرح العالمي، في وسط البحر الأبيض المتوسط حينما كان هذا البحر عظيماً لوقوعه في الطريق إلى الشرق وأممه، ولكن كشف أمريكا قذف بإيطاليا حفيدة الرومان من بؤرة الرقعة إلى طرفها، وفي الوقت نفسه كشفوا عن طريق الهند الآخر، فلم يكن بد من نزول إيطاليا حفيدة الرومان عن قوتها وثروتها وجاهها نزولاً سريعاً كسرعة الحوادث في ذلك المكان الغربي النائي من سطح الأرض. فهل ننسب هذا النزول إلى العنصر وهو الذي إليه نسبنا الصعود في سالف الدهور؟

ثم المخترعات الحديثة وعلى رأسها البخار، أحدثت في العالم السياسي والاجتماعي والاقتصادي أحداثاً أين منها أثر العنصر؟ أن التاريخ في القرنين الفائتين كتب بالفحم الأسود والحضارات قيست بعدد الأحصنة البخارية التي للأمم، حضارات بنيت على الفحم والحديد، فالفحم والحديد عاملان جغرافيان أين منهما أثر العنصر؟ فلو لم يكن في صخور إنجلترا وأمريكا ذلك الذخر الكبير من الوقود الصلب والسائل لكان للتاريخ الأخير مجرى غير الذي كان برغم العنصرية ودعاتها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>