جرمانيون خلصاء ومع ذلك قال عنهم هرتس مؤلف (الشعوب والمدنية) أنهم لم يكونوا من المجموعة الهندية الجرمانية، وأن هذا ثابت ثبوت يقين.
ان العنصر له أثر لا ينكر في أحداث المدنيات وتنشئ الشعوب ولكن هناك أمور أخرى لا تقل آثارها عن أثره، ولا نتائجها عن نتائجه، وهي تلك التي ينكرها لمتصلفون من دعاة العنصرية وغلاتها. ليس من العلم في شيء أن ننسب عظمة الإسبان مثلاً إلى دخول الدم الجرماني إليهم، وسقوطهم إلى دخول دماء أخرى غير جرمانية، ثم نغفل العوامل التاريخية والجغرافية الكبرى التي كان لها أثر كبير في تلك الرفعة وهذا الهبوط. وإذا عزونا كل مدنية إلى الدم الجرماني وكل تقدم إليه، فكيف نفسر تلك المدنية العربية التي ازدهرت يوماً ما في الأندلس وطالت ما حولها من المدنيات الأوروبية طولاً كبيراً.
إن إبطال الدعوى الجرمانية بل تسخيفها عمل يسير هين. ولكن العمل الشاق الذي يتعب الإفهام ويجهد العقول، إنما هو تسبيب نشوء المدنيات، وتسبيب انحطاطها أو زوالها. الناس تجنح دائماً كما يجنح الألمان اليوم إلى جعل العنصر العامل الوحيد في ذلك، الذي تتضاءل دونه العوامل، والسبب الذي لا تستأهل سائر الأسباب إلى جانبه ذكراً. خطأ كبير تغذيه العاطفة، وسهولة في تبسيط القضايا لا تسيغها العقول العلمية الهادئة. من بدء أزمان لا تقدر، إلى ما قبل قرون قلائل كان الجنس الجرماني يكن شمال القارة الأوربية، وكان جنساً غير مذكور ولا مأبوه له، وكان أحط الأمم الأوربية سكاناً، فأين كانت خواصه الإلهية، وصفاته السماوية كل تلك القرون؟ أكان عاجزاً عن خلق مدنية لنفسه؟ أم هي المدنية نشأت عند غيره وقريباُ منه، ومع ذلك خاب برغم قرب المساس عن اقتباسها واستعارتها؟ أم الحقيقة هي التي نقول، أن العنصر وحده غير كاف لخلق المدنيات واستنباط الحضارات.
بدأت الحضارات في مصر والعراق والهند وشرق البحر الأبيض، ومشى التاريخ قدماً فانتقلت مراكزها إلى أواسط هذا البحر ثم إلى غربه، ثم مشى التاريخ خطوات أخرى فبلغت الحضارة بحر الشمال والمحيط الأطلسي، وعندئذ، وعندئذ فقط، بدأ العنصر الجرماني يظهر في التاريخ، فان كان العنصر وحده قميناً بكل شيء فكيف ظل الجرمان ابرة كل الأحقاب بينما كانت العناصر الأخرى، وهي وطيئة في زعمهم، تخترع الحروف وتبتدع الأرقام وتخط البحار بالتجارة وتبني الدول وتقيم الحضارات.