المكفهر. أما أبوه فكان طبيباً في الجيش، وأما أمه فكانت بنت بائع فقير. فنشأ في قرية أودعه فيها أبوه، بعد أن قضت أمه، وأرسل إلى القتال. فنبت بين الحقول الواسعة، والسهول المتوثبة نحو الأفق البعيد. وطابت له الحياة في هذه القرية التي لا تسمع فيها الأصوات النابية تتعالى على جنبات السين، ولا يٌرى فيها فوران الناس بين الأحياء والشوارع، وإنما تسمع فيها أصوات العجائز الخافتة، وهن يتحدثن عن طرائف السحرة والجان، ويرى فيها أسراب الغنم تقودها الفتيات والرعيان. وأحب الحياة في القرية، فأثر ذلك في حياته. ثم خلّف القرية إلى باريس ليشدو فيها العلم. وما كاد يبلغ الثانية والعشرين حتى أخرج للناس طائفة من أشعاره. ثم قرأ (غوته) فكلف بكتبه، وعزم على نقل (فوست) إلى الفرنسية. وسرعان ما نفذ ما عزم عليه، فجاءت آية رائعة أعجب الناس بها كثيراً. فقدروا صاحبها ورمقوه. ودفعه هذا الظفر الذي سعى إليه مذ سلك طريق الأدب إلى انتخاب قطع من شعر (رونسار) وأخرى من أشعار (غوته) و (شيلر) ليقدمها إلى الناس. ثم انكب على الشعر يقرأه وينظمه ووجد أن حياة الأديب، وما فيها من كسل وما فيها من أحلام، قد صادفت من نفسه هوى، فهو لا يصلح بعد اليوم إلا لها، فقد كان له مزاج الأديب وإحساس الشاعر. وكان كما يقولون عنه دقيق الفكر رهيف الحس واسع الخيال، يسكن إلى الأحلام، ويقضي ساعات من نهاره وساعات يفتش عن حلم يرضى عنه. ويظهر لنا من أشعاره أنه كان يجد في الأوهام راحة لنفسه. . . فهو لا ينفك يتوهم ويتوهم. فهو يصف لنا، كيف يستشف أشباح الجان من وراء الغيوم. . . فيصيخ بسمعه إلى عزيفهم المبهم تارة والمخيف طوراً. . . يرسلونه مع زفيف الريح الثائرة. ويراهم مختبئين بين طيات السحاب. . . فيناديهم، فيأتون سراعاً يحيطون به. . . يكلمونه قليلاً ويحدثهم قليلاً. ثم إنه ليتمثل نفسه طائراً. . . يقفوه نفر من الجن، يسرح معهم في الفضاء حتى يصل إلى السماء، فينظر إلى الأرض الخاضعة تحت قدميه، أو يتمثل نفسه حيناً آخر هابطاً إلى سيف البحار ليستجم قليلاً، ثم ليهبط إلى قرارة البحار فيرى الحيتان والأسماك، ويزور أميرات الجن في قصورهن المتلألئة في قاع البحار
وكان لابد له وهو في مثل هذا الحس الرهيف والخيال العميق والسن الباكرة أن يحب ويعشق. ولقد أحب، ولكن حبه كان لوناً من الحب لم يكن للناس به عهد من قبل. فإن فيه