(لقد ذكرت وطني الذي تركته منذ شهور، عندما وطئت قدماي هذه الأرض الأوربية التي استولى عليها المسلمون. والتفت حواليّ. . . فإذا أنا أمام حلاق أرمني يقص اللحى. . . ويقدم القهوة. ورأيت جمعاً من الكلاب النائمة على الطريق. ولقيت شيخاً وقوراً يحمل عمته الكبيرة مستلقياً على العشب. . . نائماً ملء عينيه، يحلم بالجنة التي وعد الله عباده الصالحين)
وعاد جيرار إلى باريس فكتب (مشاهد من الحياة الشرقية) أخرجها للناس بعد أربع سنوات. وما زال يتنقل بين السجون لجنونه والبلاد المجاورة، برماً ببلاده ومحيطه، سائلاً ربه (ألا يبدل من حوادث الكون شيئاً، وإنما يبدل ما يحيط به من الأشياء ليعيش وحيداً في عالمه الجديد) مخرجاً للناس (ذكريات ونزهات) و (بنات النار) و (قصور بوهيميا الصغرى) حتى لقي مصرعه الذي كان يمشي نحوه ببطء منذ زمن طويل.
فقد ألحت عليه الأوهام واشتدت في الإلحاح فأذعن لها، واشتط في الإذعان؛ وخيل إليه ذات ليلة أنه سيلقى بلقيس، فكتب إلى صديق له:(لا تنتظرني هذا المساء؛ فإن الليل سيكون أسود أبيض) ثم هام على وجهه في طرقات باريس ذاهلاً حتى انتهى به المسير إلى مكان فيه أقذار وأوساخ فطاب له الجلوس عنده. فلما وهن الليل سمع غراباً ينعق. . . فحسب أنه رسول بلقيس الحبيبة إليه، فناداه وحدثّه. ثم قام إلى نافذة فربط بها حبلاً علّقه في عنقه ونادى:(هأنذا قادم إليك) وما هي إلا ساعات حتى فاضت روحه وانتهت مأساته بعد أن قضى سبعة وأربعين عاماً يقظان حالماً. . . وخلّف لنا آثاراً مملوءة بالحسن من الوصف والفريد من المعاني.