للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأرواح، وأن نظرته إلى أدريان كانت نتيجة لذلك الرأي. ولقد أصبح هذا الرأي لديه يقيناً عندما قضى بين دروز سورية ردحاً من الزمن غير قصير. على أننا لا ننكر أن للمخدّرات التي كان يقتل بها جسمه ويفني نفسه أثراً في إخلاده إلى ما أخلد إليه. والعجيب أن يعتقد بأن تلك الأوهام حقائق، على حين يعتقد الناس أن الحقائق أوهام. وكان من خبره بعد ذلك أنه التقى ذات ليلة براقصة في حانة بباريس فحسبها أدريان الحبيبة. وبعث الهوى الأول وهاج الشوق القديم، فقال في نجواه لنفسه: لقد عادت إلي بعد أن اختفت بين الرياض. ولازم المقهى لا يغادره إلا لحاجة ليملي بصره من جمال هذه الراقصة التي تقمصتها روح أدريان. وكان يغمرها بأزاهيره التي كان يرسلها وعليها اسمه. . . ملتمساً بذلك لنفسه وصلاً عندها، قانعاً بالنظر دون الكلام. ولكنها ازوّرت عنه بعد أن رأت جنونه وعلقت فتى كان يغني فتزوجت به

وزاد جنون شاعرنا عندما تخطى الثلاثين، فقد رأى في إحدى الأماسيّ نجماً يضطرب في السماء، فضحك له وظن أنه بلقيس تناديه لتذهب به إلى الشرق. فأخذ يقهقه ويغني ويقفز ويبكي، وينزع أثوابه ويمد يديه نحو النجم المتلألئ منادياً تارة ومغرّداً أخرى حتى مر به بعض من عرفه، فأشفقوا عليه ورثوا لحاله وقادوه إلى الطبيب

وذهب ما ألمّ به بعد ثمانية شهور قضاها في مصح للطبيب (بلانش) فعزم على الرحيل إلى الشرق. فترك باريس سنة ١٨٤٣ وكان له من العمر خمس وثلاثون سنة قاصداً جزيرة مالطة، ثم رحل عنها إلى الإسكندرية فالقاهرة. فراعه منها آثار مدنيتها القديمة وعزّها الخالي، وأعجبه زي المصريين فتزيّا به، وحاول أن يتعلم العربية فلم يفلح. ثم ترك مصر قاصداً سورية ومعه جارية سوداء اسمها زينب

وجد شاعرنا في سورية ضالة نفسه. فقد درس ما فيها من ديانات، فأعجبته منها الدرزية. وزاد يقينه بالتقمص واعتقد أن بلقيس لا بد آتية إليه بعد أن فرت أدريان وأعرضت عنه جون. ألم يجتمع ببلقيس فوق ثبج البحر على سفينة صنعت من الذهب، ورصعت بالدر، وحفت بها الجان، فضمها إلى صدره وروى فمها الضمآن من قبلاته؟

وعاد عقله إلى الاختلاط فترك بيروت إلى القسطنطينة فأقام بها زمناً، يقول (بلغت البسفور. . . فالتفتّ نحو مصر الجميلة فإذا هي وراء الأفق البعيد)

<<  <  ج:
ص:  >  >>