للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإبهاماً

والفنان يتذبذبه بين الأرض وسمائه يتلون بلونين ويتشكل بشكلين: شكل يلائم حياة الأرض بقدر ما تسمح ذمته الفنية أن يتسامح في أمانته، وشكل آخر لا يلائم إلا الذين يستطيعون أن يطيروا معه إلى سمائه ولو أتباعاً مسترشدين به. والفنان السعيد الذي يرضى الله عنه هو الذي يوفق إلى غرام واحدة من بنات السماء. والفنان المنكوب الذي أرجو له الرحمة هو الذي يتعلق به غرام واحدة من بنات الأرض: تثقل به وتعرقله عن قفزاته فإن أشفقت عليه وسمحت له بهجرته إلى السماء كلما شاء لم يجد عندها حين يهبط إليها إلا ما اختص به الله بنات الأرض. فهو شقي معها كشقاء المقعد الذي يلهب طاغية ظهره بالسياط ليجري في سباق مع صبيان خفاف شياطين. . . وإن كان المثلان متعاكسين وينتبه الفنان إلى علة إخفاقه في حبه، فإما أن يرضي من محبوبته بما طلب له فيها من الجمال الروحي والبدني وإما أن يحاول صقل نفسها وتهذيبها ليجعلها تشبه ما يجب أن تكون عليه، فإذا وفق في هذا فإنه يرضى أغلب الرضى، أما إذا فشل فيه فهو الشاكي المتبرم الساخط على الحب اليائس منه المتخاذل أمامه أو المتمرد عليه

وقليلاً جداً ما يفرغ الفنان من وقته لمصارعة المرأة ومناوشتها لأنه يتعلم من جولاته في السماء أن هذه المصارعة من أساليب العنف التي يصح الاستغناء عنها بإدراك نتائجها فيحاول أن يتشفع إلى المرأة بفنه، وهو على كثرة ما يتدلل بفنه يخضع نفسه ويخضع فنه للمرأة ويسعى إليها في هذا الخضوع خاشعاً متوسلاً مستجدياً عطفها، فإذا به ينقلب أمام المرأة شيئاً آخر أكثر رحمة بها من الرجل، وأشد حناناً منه، وأكثر بذلاً وعطاء وتضحية في سبيلها ولكنه على أي حال ليس ذلك الرجل الذي تريد أن تراه قوياً، والذي تحب أن يقسو عليها قسوة تصهر أنوثتها وتسيلها. فهذه الرقة وهذه الرحمة وهذا الخنوع وهذه المسالمة التي يقرب بها الفنان من محبوبته كلها من علامات الأنوثة - عندها - لا من علامات الرجولة وهي من مظاهر الضعف - في نظرها - لا من مظاهر القوة، وهي تبعث في نفس المرأة الاستهانة بها والشك في أمر صاحبها إذ لا تضمن المرأة أن يتخذها الفنان وسيلة من وسائل الاستدراج يسلطها على كل من تعجبه من النساء ما دام الأمر لا يكلفه أكثر من كلمات رقيقة أو ألحان عذبة أو صور جميلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>