للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يحبها بقية الناس فإنه يتمتع من السيطرة بما لا يتمتع به أحد، ففنه يلوي عنده الأعناق ويخفض بين يديه الرؤوس؛ فإذا لم يوفق إلى هذا في حياته فهو على إيمانه بفنه مؤمن بان البشرية التي غفلت عن تقديره وهو فيها ستنال جزاءها إذ تنصاع يوماً إلى قبره لتطوف بالتقديس حول عظامه ولو بعد أن ينخرها السوس! وإنه ليرى ذلك وهو في ظل العرش. وهو وإن كان يحب العشرة كما يحبها بقية الناس فهو يتأنق في اختيار عشرائه من المعاني والأخيلة والأفكار التي يرصد لها انتباهه وإحساسه ويتعقبها ويتبختر عندها مترنحاً منتشياً كراهبة ترقص في خلوتها على نغم الذكر عابدة لا فاجرة، خالصة غير مشوبة

هذه هي الغرائز التي كان حقها أن تشترك في تخليق الحب في نفس الفنان كما تخلقه في نفوس بقية الناس، ولكننا قد رأيناها جميعاً تعدل عن الحب إلى الفن

وبقيت بعد ذلك (غريزة الوثنية) التي ذكرتها في بدء هذا الحديث، واحسبني قلت إنها لم تضعف إلا عند الذين يهد من إحساسهم التدريب على الاتجاه نحو معان يحبونها هم، ويدهش لهم العالم ويتساءل: كيف يحبونها؟ ومن يكون هؤلاء غير الفنانين؟

إذن فالفنانون على هذا الأساس لا يحبون! وعلة انصرافهم عن الحب بعيدة كل البعد عن الأسباب التي توقعناها في أول حديثنا، فقد خيل إلينا أن عجزهم عن الحب قد يرجع إلى قصور في رجولتهم، أو التواء حاد بنفوسهم عن مسلك الحب الطبيعي الصحيح، أو انحراف عن أساليب الأرض إلى أسلوبهم الجديد

ولكننا رأيناهم في أول حديثنا يحبون. وقد سجلنا عليهم فشلهم في الحب من بعد تسجيلهم إياه على أنفسهم في فنونهم. . . فهل هم يحبون أو هم لا يحبون؟. . . أحبهم الله!

والواقع أنهم يحبون ولا يحبون. فالفنان إنسان حائر بين حلقتين من حلقات التطور البشري. أولاهما الحلقة التي يعيش فيها، والأخرى الحلقة التي ينتقل إليها بروحه ويستنبطها فنه ثم يعود بعد ذلك إلى ناسه. وهذه الحلقة التي يسرى به إليها ستتحقق يوماً ما في الأرض سواء أكان هذا اليوم قريباً أم بعيداً وسيعيشها الناس وكلهم في مستوى ذلك الفنان الذي يبهر جيله وسيكون من بينهم فنانون يبهرونهم بما يستنبطونه من حلقات أخرى لا يسري به إليها غيرهم. وقد ينكر هؤلاء وقد يعترف بهم. . . أمرهم وأمر الحق إلى الله

هذا هو مسلك التطور الروحاني للإنسانية فهو (كالداروينية) الجسدية ولكنه أشد غلياناً

<<  <  ج:
ص:  >  >>