للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: استنطقت أعرابياً عند الكعبة واستنسبه فإذا هو فصيح عذري، فسألته: هل علقه الحب، فأنبأ عن شدة ولوع، فسألته ما قال في ذلك فقال:

تَتَبَّعنَ مَرَمى الوحش حتى رمْينَنا ... من النَّبْلِ لا بالطائشات المخاطفِ

ضعائفُ يقتلن الرجال بلا دَمٍ ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف

وللعين مَلهًى في البلاد ولم يُفِدْ ... هوى النفس شيء كاقتياد الظرائف

وبالجملة فليس حي أصدق في الحب من بني عذرة، ولا تضرب الأمثال فيه إلا بهم، كما قال في ذلك صاحب البردة:

يا لائمي في الهوى العُذريَّ معذرةً ... مني إليك ولو أنصفتَ لَم تَلُمِ

وكما اشتهروا بالحب إلى ذلك الحد اشتهروا بالعفة فيه أيضاً وقد روي عن سعيد بن عقبة الهمذاني أنه قال لأعرابي حضر مجلسه: ممن الرجل؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا. فقال: عذري ورب الكعبة. ثم سأله عن علة ذلك فقال: لأن في نسائنا صباحة، وفي فتياتنا عفة

ويحكى من عفة عشاقهم أن جارية وشت بجميل وبثينة إلى أبيها وأنه الليلة عندها، فأتى وأخوها مشتملين معتمدين سيفهما لقتله، فسمعاه يقول لها بعد شكوى شغفه بها: هل لك في طَفءِ ما بي بما يفعل المتحابَّان؟ فقالت: قد كنت عندي بعيداً من هذا، ولو عدت إليه لن ترى وجهي أبداً! فضحك ثم قال: والله ما قلته إلا اختباراً، ولو أجبت إليه لضربتك بسيفي هذا إن استطعت وإلا هجرتك، أما سمعت قولي:

وإني لأرضى من بثينةَ بالذي ... لو أبصره الواشي لقرَّت بلابله

بلا وبألاَّ أستطيع وبالمُنى ... وبالأمل المرجوَّ قد خاب آمله

وبالنظرة العَجلى وبالحول ينقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله

فقالا: لا ينبغي إيذاء من هذا حالته، ولا منع زيارته لها، وانصرفا

وقد فتن كثير من الناس بهذا الحب العذري، ونظروا إلى أصحابه نظرة العطف والحنان، وأشاروا بذكرهم في الكتب، وأعجبوا بصدقهم وعفتهم في ذلك الحب، وحاولوا أن يجعلوا من الشهداء من يموت بسببه، ورووا في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عشق فعف فمات دخل الجنة. وفي رواية من عشق فعف فظفر مات شهيداً. وفي أخرى وكتم، وقد صحح هذا الحديث بسائر طرقه مغلطاي، واعله

<<  <  ج:
ص:  >  >>