تَرى (؟) الحكومة يا سيدي ... على مَنْ تَعشَّقَ أن يُقتَلا
فرمى القلم من يده وهو يقول: لا
وقد أخرج الخطيب البغدادي عن الغزي أنه قال: رأيت عاشقين اجتمعا فتحدثا من أول الليل إلى الغداة، ثم قاما إلى الصلاة، وقد قال في ذلك بعض الشعراء:
لله وقفةُ عاشقين تلاقيا ... من بعدِ طول نوىً وبُعدِ مزارِ
يتعاطيان من الغرام مُدامة ... زادتهما بعداً من الأوزار
صدق الغرام فلم يمل طرفٌ إلى ... فُحشٍ ولا كفٌ لحِلَّ إزار
فتلاقيا وتَفَرقَّا وكلاهما ... لم يخش مطعن عائب أوزار
وهذا كل شان الحب العذري على ما يقرأه الناس في كتب الأدب، وهي تأخذ الأشياء باللطف، ولا تدقق في أمرها كما يدقق غيرها. وقد كنت أقرأها كما يقرؤها سائر الناس، فلا ألتفت فيها إلا إلى ما يلتفتون إليه، ويصرفني التأثر بأحاديث ذلك الحب عن التدقيق في أمره، إلى أن قرأت مرة قصة وفود جرير وابن أبي ربيعة وجميل وكُثَيَر والأحوص والفرزدق والأخطل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد طلبوا الإذن بالدخول عليه؛ فكان يذكر لمن يطلب الإذن لهم بعضاً مما قاله كل واحد منهم في الغزل، ثم يأبى أن يأذن له بسببه، ولم يأذن إلا لجرير من بينهم. وقد سوى في ذلك المنع بين ابن أبي ربيعة والأحوص والفرزدق والأخطل وهم من فساق الشعراء، وبين جميل وكثير وهما من أصحاب ذلك الحب العذري؛ فكانت هذه المفارقة سبباً في لفت نظري إلى التدقيق في ذلك الشأن، وبحثه من جهة الدين بحثاً صحيحاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا تشديد ولا تساهل، لأن دين الله وسط بين ذلك.
ولا بد لي قبل هذا من ذكر قصة وفود أولئك الشعراء على عمر بن عبد العزيز ليرى القارئ تشديده في أمر أصحاب ذلك الحب العذري، بعد أن رأى تساهل غيره فيه.