سريع لم يكتف به وقد ذاق حلاوة الشهرة والإقبال، فكان يقرأ أول الليل قراناً ثم يثني بالقصائد النبوية، حتى إذا كان الهزيع الأخير من الليل غنى أدوار الحمولي ومحمد عثمان وغيرهما بمصاحبة العود. . .
أتراه قد اكتفى بهذا التجديد الغريب. . . لا. . . ولعله رأى أن هذا الخلط ينفر الناس فترك القرآن والقصائد النبوية وظهر عام ١٩٠٥ على تخته الموسيقي القوي يرسل على الناس سحر صوته وقوة فنه حتى تحكم في سوق الغناء وفي مسامع الشعب، فكان يشتغل تباعاً طول أيام السنة. ولكي نعطي القارئ صورة قريبة عن شهرة هذا الرجل العجيب في صدر شبابه نقول إنه استمر خمس سنوات كوامل يغني دون أن ينقطع ليلة واحدة. . . ومثل هذا في الشام!
كان صوته مركباً من خمسة عشر مقاماً تقريباً (١٢) بريتون (٣) باص، وكان يمتاز بسلامة تامة وبأداء بارع لم يعرف (النشوز) طول حياته. ولعله من الأصوات النادرة التي كافت (تَفرْش) في غنائها حتى لتسمعها الآلاف بوضوح وجلاء.
كان أول موسيقي شرقي اعتنى (بالبروفات) اعتناء عظيماً، فكان يشتغل طول نهاره فيها دون أن يتعب أو يمل أو يشكو ألماً وتوعكاً، ولعل سحر الذهب والإقبال والمجد هو الذي كان يمد هذا الرجل بالقوة الخارقة التي لا يكاد العقل يصدقها. وإلا فهل يصدق العقل أن بشراً يشتغل أغلب يومه وأكثر ليله دون أن يستريح إلا ساعة أو ساعتين. . .؟!
عبّأ في حياته أكثر من أربعة آلاف (اسطوانة) وهو رقم تاريخي لم يصل إليه مطرب ولا مطربة في الشرق والغرب. وقد اكتسب منها الآلاف، ولكن إسرافه أضاع كل شيء إلا ذكره ومروءته وكرمه. . .
نعم باع ماله وأضاع آلافه ليشتري بها مجده وخلوده. وما بالك برجل كانت اسطواناته توزع في الشرق والغرب كأنها الغذاء الذي لا يستغني عنه حتى ظن (الشام) أن الصفتي هذا لا بد أن يكون مارداً لا تقع العين على نهايته. فلما سافر هناك ورأوه بحجمه الضئيل النحيل خابت ضنونهم واعتزموا ألا يسمعوه إلا في حفلة أو حفلتين من قبيل (الفرجة والاستطلاع). وكان الشيخ رحمه الله قد علم بهذا، فأعد العدة لحفلة الافتتاح، ثم راح يشدو ويرسل سحره وقوة فنه في عقد سحرية على هؤلاء الذين يظنون أن القوة في (العرض