نحن الذين ننفق فلا بد أن يكون لنا الحساب؛ ونحن الذين نموت فيجب أن يكون في أيدينا الأمر!!
ما كنا قبل اليوم نشعر هذا الشعور ونفهم هذا الفهم. والفضل في هذا الوعي وفي هذه اليقظة يكاد يرجع إلى ضريبة الدمغة من دون الضرائب. فإن ضرائب العقار والدخل والإنتاج إنما هي ضرائب خاصة، تُجبى من قوم دون قوم، وفي وقت بعد وقت؛ فالشعور بوجودها محدود، والتفكير في أمرها مؤقت. أما ضريبة الدمغة فهي ضريبة عامة، تُجبى من أي إنسان في أي زمان ما دام له عمل أو حاجة. فهي لذلك لا تنفك تشعرك وتشعرني أننا ننفق على الحكومة؛ فرؤساؤها وكلاؤنا، وموظفوها أجراؤنا، وأموالها أموالنا؛ فنحن حقيقيون أن نراقب الوكيل، ونحاسب الموظف، ونرعى الخزانة؛ ونحن خليقون أن نقول للوزير: إن جهدك للدولة فلا تبذله على هواك الفرد، وللموظف: إن وقتك للأمة فلا تشغله بعملك الخاص، وللنائب: إن رأيك للناس فلا تصرفه إلى متاعك الباطل
لقد كنا ندرك معنى الوطن إدراك الشيوع والإبهام والغفلة، فلا نكاد ندري ما يقدم إلينا وما نقدم إليه. فالترع تشق، والطرق تنهج، والجسور تنصب، والعمارة تمتد، والثقافة تنتشر، والأمن يستقر، والحضارة تزدهر، ونحن نستمتع بذلك كله استمتاع الغريب لا نجد فيه ريح الفخر ولا روح المجد، كأن غيرنا هو الذي قام به وأنفق عليه! ولو أن عابثاً عبث به، أو عائثاً عاث فيه، لما ألقينا بالنا إلا لخبر السرقة أو الخيانة أو المحاباة، نرويه كما نروي أخبار البرق للتفريج والتفكهة في حديث القهوة أو في سمر البيت. وتلك حال كانت أشبه بحال الأمير أو الغني الذي أوتي الملك عفواً من غير حيلة، واستولى على ريعه صفواً من غير كلفة؛ فشعوره به شعور بأثره لا بعينه، وحرصه عليه حرص على ثمره لا على شجره. أما لذة الملك في ذاته فلا يستشعرها إلا المالك الذي اشتراه بجهده، والفلاح الذي استغله بعرقه
كذلك كنا نفهم معنى الوطن قبل أن نفهم معاني الاستقلال والسيادة والعزة، فلما فهمناها وفهمنا لوازمها من الإخلاص والإيثار والتضحية، أصبحنا نعتقد أن كل قوة هي من قوات الوطن العامة، وكل ثروة هي من ثرواته المشتركة، فالقادر لا ينبغي أن يعطل قوته لأنه حر، والغني لا يجوز أن يبدد ثروته لأنه مالك