عن وجه الحيلة في الخروج سالماً من ورطة دفعته إليها دُعابة الواثق من غير قصد.
لقد عرفنا أن اسم المازني (بكر) والجري على مقتضى القياس في القلب أن يقول: اسمي (مكر) ولكن كيف يرضى المازني الأريب أن يقذف في وجه الخليفة بهذه الكلمة الكزّة الجاسية؟
رفع المازني رأسه إلى الخليفة قائلاً: اسمي بكر، يا أمير المؤمنين
رفّت هذه الكلمة رفيفاً نديّاً على كبد الواثق، واستنار منها وجهه واستضحك لها! وعرف أن هذا الذي يقف بين يديه رجل فيه كيس ودراية، وله طبع مهذب مصقول. فقال (مستمراً في مفاكهته): اجلس فاطبئن. أي فاطمئن
ويجب ألا ننسى بهذه المناسبة أننا في العصر العباسي، حيث ورفت ظلال الحضارة ولان العيش وفشا النعيم واستفاض الظرف ورقت حواشي الأخلاق، وارتفعت مقاييس الأذواق، فكلمة ناعمة منضورة أمام خليفة أو وزير قد تنبّه من شأن قائلها وتحله منازل السعادة! وربّ كلمة حوشية جافية تهوى به إلى أسفل سافلين!
خذ لذلك مثلاً ما حدثوا به من أن مؤدب الرشيد كان عند والده المهدي (وهو يستاك) فقال له: كيف الأمر من السواك؟ فقال: اسْتك يا أمير المؤمنين. فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون! التمسوا لنا من هو أفهم من هذا. فقالوا له: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة قدم من البادية قريباً. فكتب بإحضاره، فساعة مثل بين يديه قال له: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سُك. قال: أحسنت وأصبت وأمر له بعشرة آلاف درهم!
وقد حرم الأصمعي التوفيق في بعض مواقفه مع الرشيد على علمه وفضله فقد سأله عن مسألة، فأجاب: على الخبير بها سقطت! فقرعه الوزير يحيى بن خالد ونسبه إلى السوقة والأغتام!
على حين فطن لها أبو أحمد العسكري - وقد سأله الصاحب ابن عباد، فقال: الخبير صادفت. فقال الصاحب: يا أبا أحمد تُغرب في كل شيء حتى في المثل السائر! فقال: تشاءمت من السقوط بحضرة مولانا، وإنما كلام العرب: على الخبير بها سقطت
لهذا نَبُل المازني في نفس الواثق وحليّ في عينه، لأنه توسم فيه سجاحة الخلق وسلاسة