الحاشية ودقة الفطنة. وما زال الناس يستدلون بحديث المرء على دخيلة نفسه وصحيفة لبه ومبلغ تهذيبه وثقافته
ولنعد إلى ما انقطع من الحديث، فنقول: إن الواثق سأله عن البيت المتقدم فقال: الوجه النصب، لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم. فأخذ اليزيدي النحوي يعارضه. فقال المازني: هو بمنزلة: إن ضربك زيداً ظُلمٌ. فالرجل مفعول مصابكم، والدليل عليه: أن الكلام معلق إلى أن نقول: ظلم، فتتم الفائدة
فأعجب الواثق بهذا الفقه الدقيق. فقال: صدقت. ثم أردف قائلاً: ألك ولد؟ قال: بنت لا غير. قال: فما قالت لك حين ودعتها؟ قال: أنشدتني قول الأعشى:
تقول ابنتي حين جدّ الرحيل ... أرانا بسوء كمن قد يتم
أبانا فلا رِمْتَ من عندنا ... فإنا بخير إذا لم تَرِمْ
فقال الواثق: كأني بك وقد أنشدتها قول الأعشى أيضاً:
تقول بنتي وقد قرّبتُ مُرْتحلاًِ ... يا رب جنّب أبي الأوصابَ والوجعا
عليك مثل الذي صلّيت فاعتصمي ... يوماً، فإن لجنب المرء مُضَّجَعا
ولا ندري أقال المازني لابنته هذا الشعر أم لم يقله؟ ولكن ذوقه الذي كشفنا جانباً منه أبي إلا أن يصدق ظن الخليفة.
فقال: صدق أمير المؤمنين. قلت لها ذلك وزدتها عليه قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال الواثق: ثق بالنجاح إن شاء الله.
وخطر للواثق أن يكل إليه امتحان معلمي أولاده فقال له: إن ههنا قوماً يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان عالماً ألزمناه إياهم، ومن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم. وقد امتحنهم المازني فلم يجد فيهم طائلاً. فجزع المعلمون المساكين، وأيقنوا بالشر. ولكن المازني كان له دين يعصمه من قطع أرزاق الناس، فقال لهم: لا تُراعوا. ثم مضى إلى الخليفة. فقال له: كيف رأيت؟ فأجاب بجواب أبرأ بة ذمته وخلص منه إلى غرضه. قال: رأيتهم يفضل بعضهم بعضاً في أمور، ويفضل الباقون في غيرها، وكلٌ يُحتاج إليه. فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلاً فكان غايةً في الجهل خطاباً ونظراً! فقال المازني: يا أمير