المؤمنين أكثر من تقدّم من المعلمين بهذه الصفة! وقد قلت فيهم:
إن المعلم لا يزال مضعفاً ... ولو ابتنى فوق السماء بناَء
من علم الصبيان أضنوْا عقله ... مما يلاقي بُكْرة وعشاء
فاهتز الواثق طرباً وقال: كيف لي بقربك؟ فقال المازني: يا أمير المؤمنين، إن الغنم لفي قربك والنظر إليك، والأمن والفوز لديك، ولكني ألفت الوحدة، وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضُرُ بهم ذلك، ومطالبة العادة أشد من مطالبة الطباع. فقال الواثق: فلا تقطعنا وإن لم نطلبك. فقال: السمع والطاعة.
وقد أمر له الخليفة بألف دينار، وأجرى عليه في كل شهر مئة، فانصرف إلى البصرة موطنه، وظلت تجري عليه الوظيفة حتى مات الواثق فقطعت عنه.
وقد ذُكر المازني للمتوكل فاستدعاه، فدخل إليه وقد جلس وزيره وصفيه الفتح بن خاقان بين يديه، وحفّت به كوكبة من فتيان الأتراك مدججين بالسلاح فهاله ما رأى من روعة الحضرة وأبهة البلاط، وكثرة العدد والعُدد، فطارت نفسه شعاعاً، وانتشر عليه فكره، وخشي أن يسأل فلا يسعفه الجواب لما داخله من الهيبة. فحين سلّم على الخليفة، ابتدر قائلاً: يا أمير المؤمنين أقول كما قال الأعرابي:
لاتَقْلُوَاها وادْلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غَدْوا
ولم يكن المتوكل كالواثق في ثقافته العربية فلم يفهم ما أراد المازني، فاستُبرد وأُخرج. ولكن المتوكل لم يستغن عنه، فعاد فاستدعاه وقال له: أنشدني احسن مرثية قالتها العرب: