وجاء بعده السيوطي فلم يخجل من أن يضع في كتابه (حسن المحاضرة) فصلاً عنوانه (السبب في كون أهل مصر أذلاء يحملون الضيم) وقد جاء فيه (إن الشيخ تاج الدين كان يقول: إن الحكماء وأهل التجارب ذكروا أن من أقام ببغداد سنة وجد في علمه زيادة، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة، ومن أقام بدمشق وجد في طباعه غلظة، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقة وحسنا) والرقة والذل قريب بعضهما من بعض. وقال القاضي الفاضل:(أهل مصر على كثرة عددهم، وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدأبون في البر).
ويذكرون الذل على انه حقيقة ثابتة، ثم يختلفون في السبب في ذلك، فمن قائل إن المصريين غاظوا يوماً سعد بن أبى وقاص، فدعا عليهم أن يضربهم الله بالذل؛ وسعد عرف بإجابة الدعوة.
انو كان ذلك فالخطب هين، فمن الممكن أن يجتمع صلحاء مصر وورعاؤها فيقرءوا الفواتح والدعوات وما تيسر من القران الكريم، ويهبوها لروح سعد ويطلبوا إليه ان يعدل عن دعوته، ويطلب إلى الله تعالى ان يرميهم بالعزة بعد الذل. وما أظن سعداً يصر على دعوته، وقد عرف في حياته بالسماحة والسؤدد.
ومن قائل: إن فرعون لما غرق كان معه أشراف القوم وأعزتهم، فلما غرقوا معه، فلم يبق إلا الحثالة، فأتى من نسلهم الجبناء الأذلاء. وهل ينتج الذليل إلا الذليل؟ وهذا القول أيضاً سهل رده، فالمصريون قد نزل بين أظهرهم كثير من سادة اليونان والرومان، وسادة العرب وسادة الأتراك، وذابوا في مصر واختلطوا بأهلها؛ فلم يغلب الذل العزة وعهدنا دائماً غلبة الأعزاء؟
أخطر الأسباب ما يلمح إليه الماكر (المقريزي) فهو يريد أن يبعث في النفوس اعتقاداً بان هذا سبب طبيعي يرجع إلى الإقليم والى الجو، والى طبيعة الأرض، هو يريد أن يقول إن ذلك خلقة فيهم، بل هو في كل شيء حولهم فيقول (إن هواء مصر يعمل في المعجونات وسائر الأدوية ضعفاً في قوتها، فأعمار الأدوية - المفردة المركبة، المعجون منها وغير المعجون - بمصر اقصر منها في غير مصر) واشد من ذلك وأصرح قوله (ان قوى النفس