فقلنا: - لا بأس في أن نتعلم من غير العاقلين، هذا هو الحيوان يجوع فيسعى إلى الطعام، ويظمأ فيطلب الماء، ويحن إلى الأنثى فيدلونه إليها، ويزيد نشاطه فيلعب ويتعب فينام، ويطمئن فيهدأ، ويخاف فيتقي ما يخاف، ويستطيب فيألف، ويستنكر فينفر، ويصح فيعتدل، ويعتدل فيصح، فإن مرض عالج نفسه بنفسه، وهو لا يمرض إلا إذا ألم به ما هو غريب على الطبيعة، وحياة الحيوان بهذا كحياة الإنسان فيها كل مظاهر الحياة، وفيها كل معاني الحياة، وليست تنقص عن حياة الإنسان إلا هذه العقد التي أنشأها العقل. فهي لا يمكن أن تعاب بهذا النقص لأن فيه سلامتها؛ فما الذي يدبر هذه السلامة لها. . .
هذا يا أستاذنا هو السؤال الذي نحب أن نبدأ به جدلنا. . .
. . . وأصاب أستاذنا الرد سريعاً فأجاب: إنها الغرائز، أي نعم الغرائز. فالحيوان ينقاد لغرائزه في حياته فيسلم ما دامت حياته طبيعية لا تمتد إليها المؤثرات المصطنعة. . .
. . . وهذا كلام طيب لا نستطيع نحن الجهلاء أن ندفعه. فعلماء النفس عندهم مقاييس وموازين وأجهزة أثبتوا بها أن الحيوان يعيش بالغرائز، ويحفظ نفسه طول حياته بالغرائز؛ ثم يموت أيضاً بالغرائز. . . ولكننا نرى في حياة الحيوان أعاجيب تشهد بأن الحيوان يدرك من أسرار الطبيعة ما لا يدركه العقلاء بعقولهم، ولما كان علماء النفس لا يقولون إن غرائز الحيوان تزيد على غرائز الإنسان شيئاً لم نر بداً من أن نسأل أستاذنا سؤالاً رأيناه يرتعش قبل أن نسوقه إلى مقام الأستاذ، ولكننا سقناه فسألناه: هل في غرائز الحيوان ما يدعى (غريزة الغيب)؟!
فقلنا والخجل يكاد يخنقنا: نعم. فالحيوان يبدر منه أحياناً ما يدل على أنه يدرك ما يشبه الغيب، أو أنه يشبه أن يدرك الغيب عندئذ نفخ أستاذنا وقال: مثال ذلك؟
فحمدنا الله لأنه لم يتعجل فينكر علينا دعوانا قبل أن نحاول إثباتها، فقد تعودنا من كثيرين من العلماء الذين يشغفون بالمقاييس والموازين والأجهزة أن ينكروا كل ما يعتصم على مقاييسهم وموازينهم وأجهزتهم. . . استبشرنا وتوقعنا الخير، وقلنا عساه يريد أن ينزل عن علمه وأن يسلك معنا طريق الفن أو طريق الجهل، وأسرعنا فضربنا له المثل قائلين:
- يحدث في ليلة العيد الكبير في مدن المسلمين أن يرتفع ثغاء الأضاحي أكثر من ارتفاعه