في أوربا تخطوا منزلة الاستعارات والكنايات وصاروا يرمزون إلى حالات نفسية بأشياء مادية وبألفاظ أو جمل ويقطعون الصلة بين الرموز التي يرمز لها اعتماداً على خيال القارئ وإحساسه وأحلامه وهواجس نفسه الغامضة الخ. . .) ولعمري لو طلبنا من أبي تمام أن يستخدم تلك الرمزية الأخيرة لأقلقنا ترابه الصامت في برزخه إذ تلك الرمزية التي عناها الأستاذ الكبير إنما هي الرمزية الناضجة التي استحصدت قواها في أواخر القرن التاسع عشر في أوربا وبالأخص في فرنسا وقامت على أسس لم تعرفها الرمزية في عهدها الأول ومن تلك الأسس التجاريب النفسية كأحوال العقل الباطن والتنويم وسوى ذلك، وقد برز في هذه الرمزية أبطال منهم بريستلي، وهنري باتاي، وطاغور شاعر الهند الأكبر، وجبران خليل جبران. فليس من الإنصاف أن تقاس رمزية أبي تمام على رمزية هؤلاء المتأخرين وإلا تبخرت الأولى بلا مراء، إذ لا بد أن تقام المفارقات التاريخية على أصول بعضها الزمان والمكان؛ وأبو تمام عربي تنبسط أمامه الصحراء وتنسدل حوله آفاق السماء فلا يمكن بحال أن تطلب نفسه الرمزية بهذا اللون وتؤدي بها إلى الحد الذي أدت بهم إليه، وأما في عهدها الأول فهي بلا ريب تبسط أجنحتها على أبي تمام لتضعه إلى أعلامها. وما الرمزية إلا اتجاه نفسي يسلك للتعبير عما في متاهات النفس من الأشباح العصبية المتغلغلة في الإبهام والغموض فتبدو مرموزاً إليها فقط كي يدل الرمز على المعنى المقصود من قريب أو بعيد، وفي ذلك جهد الشاعر. وإذا ما بسطنا بين أيدينا ديوان أبي تمام وجدناه حالياً بكثير من الشواهد الرمزية على هذه الطريقة وأسوق منها طاقة صغيرة فيما يلي:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها ... تنال إلا على جسر من التعب
بخديه دقائق لو تراها ... إذاً لسألت عنها في المعاني
وقديماً ما استنبطت طاعة الخا ... لق إلا من طاعة المخلوق
لي عبرة في الخد سا ... ئرة وبيت سائر
وبوجنتيه بدائع ... للجلنار ضرائر
نقشت كف الملاحة في ... وجنتيه أظرف النقش
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
تفاحة جرحت بالدر من فيها ... أشهى إليّ من الدنيا وما فيها