ثم خرجت إلى المكتبة (ملت كتبخانه سي) فألقيت نظرة على فهارس المكتبة ولا سيما العربية منها فلم أجد فيها من نفائس الكتب أو غرائبها ما يستوقف الباحث. وأرسل معنا قيم المكتبة رجلاً من الموكلين بالآثار فذهب بنا إلى حيث يدفعنا الشوق ويدعونا الحب إلى البقعة التي ترسل الشعر والحكمة والتصوف في آفاق الإسلام منذ ستة قرون، إلى المزار الذي استبدل به صاحبه قلوب العارفين:
فلا تطلبن في الأرض قبري فإنما ... صدور الرجال العارفين مزاري
إلى الذكرى العظيمة التي لا تزال تدوي في القلوب تقي وشعراً، وفي العقول حكمة وإيماناً، وفي الآذان موسيقى وغناء؛ إلى النبوغ الذي مزج الحكمة والتصوف والشعر في أحسن تقويم؛ إلى الرجل الذي أنبته بلخ وظفرت به قونية ولكن لم يسع قلبه وعقله مكان؛ إلى الحكيم البكري الذي لا تحده الأنساب والأوطان؛ إلى صاحب المثنوي والديوان مولانا جلال الدين الرومي الذي تنسب إليه الطائفة المولوية المعروفة في مصر والأقطار الإسلامية، وقد اشتهرت مجالسهم في السماع، يجتمعون على نظام خاص ويدورون بترتيب محكم على نغمات الناي وإنشاد المثنوي؛ والناي عند المولوية رمز إلى الحنين الدائم إلى العالم الروحي وقد بدأ مولانا جلال الدين كتاب المثنوي بنشيد الناي وأوله:
استمع للناي غنى وحكى ... شفّة البين طويلاً فشكا
مذ نأى الغاب - وكان الوطنا - ... ملأ الناس أنيني شجنا
من تشرده النوى عن أصله ... يبتغي الرجعى لمغنى وصله
أين قلب من فراق مُزّقا ... كي أبثّ الوجد فيه حُرّقا
كل نادٍ قد رآني نأدباً ... كل قوم تخذوني صاحبا
ظن كلٌّ أنني نعم السمير ... ليس يدري أي سر في الضمير
إن سري في أنيني قد ظهر ... غير أن الأذْن كلّت والبصر
إن صوت الناي نار لا هواء ... كل من لم يَصْلَها فهو هباء
هي نار العشق في الناي تثور ... وهي نار العشق في الخمر تفور. الخ
وكان للمولوية في تركيا شأن عظيم وكان رئيسهم (جلبي قونية) يقلد سلاطين العثمانيين السيف حين يتولون الملك