المتدينين لذة في أكل النار وطعن أنفسهم بالخناجر في بعض الحفلات الدينية. والجدل في مناظرة الكتب والصحف والمجلات كالجدل في مناظرة الكلام فمنه ما يكون من العبث المضي فيه، ولعل أشد المناظرة عبثاً وضيعة ما يدعو إلى مجادلة الذي يزكي بالمصطلحات قلة خبرته بالحياة، وهي مصطلحات لا يستقيم مذهبها إلا في الأمور النظرية التي لا تتصل بأمور الحسّ، أو مجادلة من يشبه المؤرخ الذي لا ينتقد مصادر تاريخه كما ينتقد الصيرف نقوده وتطغى حماسة الشباب في قوله وتطغى الثقة بالأصدقاء على الرغبة في الإنصاف وفي تخليد حكمه وصيانته من أن ينقضه بحث باحث
وقد يكبر الوهم للمشتغلين بالسياسة قيمة جدلهم ومناظراتهم في الصحف، ويحسب كل فريق أن خراب الوطن رهن بانخذاله في أية مناظرة مهما يكن سببها فيستبيح ضمير كل فريق من الوسائل في خصومات الجدل ما كان يعده إجراماً لو نظر إلى الأمور بعين المؤرخ الذي يرى زوال الجهود البشرية وغثاثة أمر الكثير منها وتفاهة ما كان الناس يعدونه جد جليل خطير
ولما كانت السياسة شغل الناس الشاغل في العصور الحديثة فإن الأخلاق التي يستبيحها الجدل في شؤونها، وما قد يظن معينا على هذا الجدل، تتفشى وتفسد أمور الحياة التي يراد إصلاحها بهذا الجدل فيأتي فساد الأمور من سبيل إصلاحها، ويأتي سقمها على يد طبيبها. ولا يقتصر هذا الفساد على المشتغلين بالأمور السياسية؛ فإن كل إنسان وكل قوم يبيح فيمن يعدهم من خصومة وإن لم يكونوا خصوماً في أمور المعاش، ما تبيحه السياسة من الكذب والخساسة في العداوة والإجرام؛ فإن الرجل من عامة الناس أو أشباه العامة يرى بين الخاصة والعظماء المشتغلين بالسياسة من يستبيح كل وسيلة مهما كانت مرذولة، فيبيح لنفسه في أمور المعاش واللهو والتلذذ بالكيد ما تبيحه السياسة في الأمور العامة، ويصير نشر الدعوة الكاذبة في أمور السياسة خطة يتأثرها الناس في أمور المعاش أو اللهو أو الغرور، ويصير التحزب ونصرة الجماعة بالحق وبالباطل في أمور السياسة عادة يتبعها الناس ويغالون في باطلها في أحقر الأمور وأصغرها أو في أبعد الأمور عن تلك الخطط والعادات وأقلها حاجة إليها وأكثرها فساداً بها، ويكون فسادها أعظم والمغالاة بها أشد في البيئات التي تعودت في تاريخها التخاذل في الحق والتحزب والتقاتل في أتفه الأمور أو