وهنا نقف قليلاً بعد أن استعرضنا كبار الزنادقة وشرحنا كيف كانوا موضعاً للاضطهاد في أيام الخلفاء العباسيين الأول لكي نتبين ما وصلنا إليه من نتائج
فنلاحظ أولاً أن الزنادقة الذين وجه إليهم الخلفاء ما وجهوه من اضطهاد كانوا مانوية إما بتحولهم عن الإسلام أو منذ ولادتهم في الفترة ما بين سنة ١٦٣ و١٧٠. أما بعد ذلك فإنا لم نستطيع أن نثبت المانوية لواحد ممن اتهموا بالزندقة، اللهم إلا لعبد الكريم ابن أبي العوجاء. أما الآخرون فلم نستطع أن نفصل في أمرهم فصلاً أخيراً
ثم نلاحظ كذلك أن الزنادقة كانوا في أماكن عديدة فكانوا في بغداد وفي حلب وفي مكة، ثم في البصرة والكوفة على وجه الخصوص.
وإن أشهر ما كان يوجه إليهم من تهم هو ترك الفرائض (كالصوم والصلاة والحج)، ثم ادعاء الشعراء منهم والكتاب أنهم يستطيعون أن يكتبوا خيراً من القرآن؛ وأخيراً موقفهم بإزاء وحدانية الله
وأنه كانت هناك رابطة بين الزندقة والشيعة، قد رأينا كيف كان الانتساب إلى الشيعة الرافضة دليلاً على الزندقة وداعياً إلى الاتهام بها
ونلاحظ أخيراً أن الكثير من كبار الزنادقة قد قضوا شبابهم وأوائل حياتهم في أواخر أيام الدولة الأموية. فيجب أن نستنتج كما يقول الأستاذ فيدا:(أنه للكشف عن أصل التأثيرات الإيرانية التي لعبت دوراً خطيراً منذ ظهور الدولة الجديدة (أي الدولة العباسية) فلا بد من البحث في الأوساط العلمية العقلية في داخل خراسان وبين أعوان أبي مسلم الخراساني السريين كما نبحث عنه في البصرة والكوفة) ففي منطقة خراسان التقت جملة حضارات مختلفة في طابعها. فكان فيها في أواخر الدولة الأموية حركة صراع فكري بين عدة حضارات. وكان لهذا الصراع الفكري أكبر الأثر في تكوين العقلية الجديدة التي سادت العصر العباسي أو الجزء الأول منه على أقل تقدير. ولن نستطيع أن نفهم هذه العقلية الجديدة وتطورها طوال ذلك العصر إلا إذا درسنا هذا الوسط الذي اصطدمت فيه العقليات المختلفة واختمرت فيه بذور الحياة العقلية التي جعلت من العصر العباسي الأول عصراً من أخصب العصور الفكرية في تاريخ العالم كله.