أما حظ النزعة الشعوبية في تكوين الزندقة فلم يكن كبيراً في شاعر من الشعراء أو كاتب من الكتاب بقدر ما كان عند إبان بن عبد الحميد اللاحقي. فقد كان يعرف الفارسية ويترجم عنها؛ وكان على اطلاع وسعة علم بأدب الفرس القديم، فكان ذلك داعياً له إلى التعلق بتراث الفرس والتغني به في جميع مظاهره. ولكن هذا ليس دليلاً قاطعاً على أنه كان مانويا حقاً، أو أنه أعتنق المانوية كدين أخلص (؟) على الرغم مما ذكره أبو نواس عنه في إحدى القصائد التي هجاه بها فاتهمه بأنه كان حسياً لا يؤمن إلا بما يراه فلا يعتقد إذن بالجن ولا بالملائكة. وهذه التهمة عينها قد وجهت إلى بشار من قبل. واتهمه أيضاً بأنه أشاد بماني وسخر من المسيح وموسى. وهنا يبدو الخلط والاضطراب في كلام أبي نواس لأنه إذا كان مانوياً فلن يسخر من المسيح. والصلة بين المانوية والمسيحية كبيرة واضحة لا تسمح بهذه السخرية. ونرجح نحن أن السبب الأكبر في اتهام إبان بالزندقة كان نزعته الشعوبية الواضحة فاتخذ أنصار العربية من اتهامه بالزندقة سلاحاً يستعملونه ضده في الخصومة الحضارية بين الشعوبية والعربية
وهؤلاء الشعراء الثلاثة قد اتفقوا جميعاً في غلبة روح الاستخفاف والعبث فيهم. ولذلك فإن أبا نواس كان صادقاً حقاً في تسميتهم (بعصابة المجّان) ولو أنه كان فرداً من أفراد هذه العصابة! فهم أقرب إلى الشك والمجون إذن من الإيمان والجد وهم أولى باسم الشكاك العابثين من اسم الزنادقة المخلصين
وأكثر من هؤلاء جداً وأبعدهم عن العبث والمجون أبو العتاهية. وقد لخص الأستاذ فيدا آراء أبي العتاهية أحسن التلخيص فقال: إن أول ما نلاحظه في معتقدات أبي العتاهية أنه كان يؤمن بالأثينية بكل صراحة. فالعالم الظاهر مكون من جوهرين متعارضين، والوجود تنازعه طبقتان إحداهما خيّرة والأخرى شريرة. وهو يرجع الوجود كله في النهاية إلى الجوهرين المتعارضين اللذين نشأ عنهما العالم وتكوّن. غير أن أبا العتاهية صاغ نظرياته الأثينية في صيغة واحدية، إذ جعل الله الواحد عند بدء الأشياء وقال: إنه خالق الجوهرين وأن العالم ما كان له أن يوجد بدون الله وحده. طارحاً بذلك أسطورة الخليط الأزلي بين الجوهرين أو المبدأين ونعني بهما النور والظلمة