فقد شاء ألا يقنع بما أفاء الله عليه من مواهب عالية، وبما حصّله بجهده من ثروة أدبية ضخمة تتقطّع دونها أعناق الفحول! فاستغلّ حفظه للشعر وبَصارته بمنازع الشعراء، وقدرته على النظم، ودقة مسلكه في التقليد، وَغرامه بالتزيّد في الوضع والتلفيق والتدليس! فكان يقرض الشعر وينْحَلُه من يشاء من شعراء العرب، ويجوز ذلك على أكثر الناس لفرط المشابهة بين الأصيل والدخيل!
ومن السهل على من رُزق علم حماد وقوة طبعه وحدة قريحته وبارع زكانته، أن يفعل مثل فعله لا فرق بين متقدم ومتأخر!
يقول الثعالبي: إن الصاحب يوماً قال لجلسائه - وقد جرى ذكر أبي فِراس الحمداني -: لا يقدر أحد أن يزوّر عليه شعراً. فقال البديع الهمذاني: ومن يقدر على ذلك وهو القائل:
رويدَك، لا تصِلْ يدَها بباعك ... ولا تُغْرِ السباع إلى رباعك
ولا تُعِنِ العدوَّ عليّ إني ... يمينٌ إن قطعتَ فمن ذِراعك
فقال الصاحب: صدقت! فقال البديع: أيد الله مولانا قد فعلت! - أي زوّرت عليه -
والغريب في أمر حماد أنه لا يستحي أن يتبجّح بهذا الضلال البعيد! فكان يقول: ما من شاعر إلا أدخْلت في شعره أبياتاً حملت عنه إلا أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قط غير بيت واحد. فقيل ما هو؟ قال:
وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ ... من الحوادث إلا الشّيْب والصلَعا
وأغرب من هذا أن جرأته كانت تطوّع له الكذب على الخلفاء المعروفين بدقة الفطنة وسعة المعرفة! فقد روَي صاحب الأغاني بسنده عن جماعة ذكر أنهم كانوا في دار الخليفة المهدي إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبيّ الراوية، فدخل فمكث ملياً ثم خرج ومعه حماد الراوية وحسين الخادم، وقد بان وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط. ثم نادى الخادم: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يُعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها. ووصل المفضّل الضبي بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعراً مُحدَثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية