تنطلق بقية المخلوقات لا يعتزم أن ينتج فناً، ولا يتهيأ لذلك، ولا يتعلم من الناس طريقة التعبير عن نفسه.
ومع هذا الحس الصادق سبق يطير بالفنان إلى حقائق الكون على جناحين من هذا الحس نفسه. فالفنان الحق لا يمكنه أن ينتظر حتى يقول له المعلم إنه ثبتت لديه حقيقة من الحقائق على وجه من الوجوه، وإنه يأذن له على أساس هذا الثبوت أن يتخذ من هذه الحقيقة مادة لفنه. هو لا يمكنه أن ينتظر حتى يحدث هذا وإنما هو يصل من تلقاء نفسه إلى هذه الحقائق فيعلنها والعلم لا يزال يحبو في الطريق إليها مثاقلاً متلكئاً؛ وقد يصيب الفنان هذه الحقائق، وقد يخطئها، ولكنه على أي حال يصل إلى شيء ما، - بعيد عنها أو قريب منها - على أنه هو نفسه لا يعنيه من هذا كله إلا أن ينطلق، وأن ينطلق فقط.
ومع هذا الحس، ومع هذا السبق به، فإنه لابد للفنان أن يدفعه إلى إنتاجه الفني دافع نفساني من العواطف التي ينفثها في فنه رضي أو سخطاً أو غير ذلك، وإلا كان الفن بارداً برودة الموت، لأنه خلا من العاطفة وهي روحه وباعثة الحياة فيه
ومع هذا وذاك فلا بد أن يكون الفن حراً لا يرضى لنفسه أن خضع في الأغلال والقيود، ولا يقبل أن يتحكم فيه شيء، وإن رضخ له كل ما ينتجه العقل البشري من علم وصناعة.
هذه (أوليات) لا يمكن أن يكون الفن فناً بدونها. فهل تتوفر هذه (الأوليات) في هذا النوع الثالث من الفن الرمزي الذي يطالعنا به هذا العصر الحديث؟
أما الحس الصادق فهارب من أهل هذا الفن، وليس هو وحده الذي هرب منهم وفر، وإنما تسلل من نفوسهم معه كل حس فلم يعودوا يحسون إحساساً صادقاً ولا إحساساً كاذباً. وليس هذا لأن الله خلقهم هكذا (مبرشمين) بل لأنهم هم أنفسهم أرادوا أن يكونوا هكذا. فلم يقبلوا أن يكون في الناس من يزيد عليهم علماً، ولا من يزيد عليهم اطلاعاً، ولا من يزيد عليهم إلماماً بما يكتب وبما في الكتب، ولا من يزيد عليهم إحاطة بما يحدث في هذه الدنيا من اختراعات واكتشافات ونظريات ومعلومات، فأدمنوا القراءة، وأدمنوا التعلم، وأدمنوا الاطلاع، وهذا كله يشغل العقل ويجهده، ويأخذه بالمران على سلوك نهج الناس في التفكير. والذي لا شك فيه هو أن هذا العصر الحديث قد اختلط لنفسه نهجاً خاصاً في التفكير ربما تكون الإنسانية قد اصطنعته في يوم ما، ولكنها على أي حال لم تقطع فيه شوطاً بعيداً كهذا