قرأت في الرسالة رقم ٣١٢ المقال الممتع الذي كتبه الأستاذ عزيز أحمد فهمي فكان أعجب شيء التفت إليه نظري وامتلأ به تفكيري هو ما أورده من تلك الظواهر التي تميل إلى القول بوجود إدراك الغيب عند الحيوان. فقد عاد بي قوله هذا إلى ذكر ليالٍ خلت، أيام كانت فلسطين تتهيأ لتقوم بثورتها الكبرى. ويالها من ليال كانت تملأ قلبي فزعاً وهماً!
حينما يسجو الليل، ويهجع السامر، ويخشع كل جرس، كانت تقوم (وهوهة) حزينة في جبل النار يرجعها بنات آوى كترجيع النائحات، فما كان يخيل إلي ساعتئذ إلا أن في كل بيت من بيوت البلدة مناحة قائمة. وشد ما كنت أتشاءم من ذلك الشعور الذي ينتابني لدى ظهور تلك الأصوات الكئيبة الباكية! فقد كان يذهب بي خيالي إلى أن هذه الأصوات طبيعية بالنسبة إلى ذلك الحيوان، ولكن أذني تحولها إلى تلك الصورة الكئيبة إيذاناً بمصيبة ستلم بي لا قدر الله
وهكذا لم تكن بنات آوى لتخطئ مواعيدها في كل ليلة؛ ولم يكن خيالي ليخطئ في تصوير أبشع ما يتوقعه المرء من شر وسوء
وكانت الثورة، وما أدراك ما الثورة! فطاحت رؤوس، وتمزقت نفوس؛ وإذا البلدة لا تمضي عليها ساعات معدودة في كل يوم دون أن تفجع بحبيب إليها أثير لديها. وكان القوم يوارون الضحايا في سفح جبل النار مثنى وثلاث
ونظرت. . . وإذا الله يستبدل مناحات الأمهات، والزوجات، والأخوات بمناحات بنات آوى. فالأصوات هي هي بعينها، والوحشة تملأ البلدة في وضح النهار فضلاً عن الليل. وذهبت نفسي حسرات، وتصاعدت آلامي المكبوتة زفرات. وما كانت لتطلع الشمس أو تغيب في كل يوم إلا على مأساة من هذه المآسي
وها قد انتهى أمر الثورة. وهاأنا أصيخ بسمعي في كل ليلة عساي أسمع تلك الوهوهة الباكية، أو قل تلك المناحات التي كانت تقيمها بنات آوى فما أسمع صوتاً ولا ركزاً.