عن موضوع البحث والمناقشة) كان من الأمور الجلية التي لا تحتاج إلى التوضيح والتنبيه؛ كما ظهر لي ذلك من أقوال الشبان الذين حادثتهم خلال رحلتي في باريس، وتونس، وسورية
فقلت في نفسي: لا داعي إلى كتابة شئ في هذا الموضوع بعد انقضاء هذه المدة، ما دام رد الدكتور طه حسين لم يكن من النوع الذي يستطيع أن يخدع أحداً من القراء الأذكياء
ولذلك لم أعد إلى هذا البحث منذ ذلك الحين
غير أنني اطلعت أخيراً على مقالكم المنشور في العدد الممتاز من مجلة الهلال، عن (العقل العربي الحديث). ورأيت أنكم عرضتم في ذلك المقال لمسألة (الوحدة العربية) بطرق ملتوية: بعد أن سردتم بعض الآراء حول (تطور العقل البشري) بوجه عام، وتطور (العقل الأدبي الحديث) بوجه خاص، بحثتم عن وجوب (تجديد العقل العربي)، وذكرتم ما تعتقدونه في وسائل هذا التجديد. . . وفي الأخير، انتقلتم إلى مسألة (الوحدة العربية) بطريقة (ظريفة وطريفة) إذ قلتم ما يلي:
(وربما كان من الأمثلة الظريفة الطريفة التي تبين الفرق بين العقل العربي القديم، والعقل العربي الحديث في هذا العصر الذي نعيش فيه، مسألة الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية التي يكثر فيها الكلام وتشتد فيها الخصومة؛ فما أظن أن الناس يختلفون في أن هذه الوحدة نافعة للشعوب العربية وللشعوب الإسلامية أشد النفع، وفي أن مصالحهم تدعوهم إليها وتدفعهم إليها دفعاً، ولكنهم مع ذلك يختلفون ويختصمون لا لشيء إلا لأنهم يختلفون في تصور هذه الوحدة حسب ما يتاح لهم من العقل القديم أو العقل الحديث. فأما أصحاب القديم فيفهمون هذه الوحدة كما فهمها القدماء في ظل سلطان عام شامل يبسط عليها جناحيه ويحوطها بقوته وبأسه، وليسمَّ هذا السلطان خلافة، وليسمَّ ملكاً كما كان يسمى قديماً، ويجوز أن يسمى إمبراطورية ليكون له حظ من الطرافة، فقد عرف القدماء الإمبراطوريات واحتفظ بها المحدثون من الأوربيين. وكذلك يخدع العقل القديم نفسه فيظن أنه أصبح حديثاً. وأما أصحاب العقل الحديث فيفهمون هذه الوحدة على نحو ما تفهم عليه في البلاد المحتضرة بالحضارات الحديثة الأوربية. يفهمونها على أنها لا تنفع ولا تفيد إلا إذا احتفظت بالقوميات والشخصيات الوطنية والحريات الكاملة لأعضائها والسيادة العامة لهم