عني الإنجليز إذن بدراسة ما حولهم من أحياء وأشياء. حيث آمنوا إيمانا قاطعا أنها هي الحقائق التي لا حقائق بعدها، فنتج عن هذه الدراسة علوم الطبيعة والكيمياء وسائر العلوم جميعا، بما في ذلك علم الحياة الذي كانت نظرية التطور ثمرة من قطوفه. وقد فصلها دارون في كتابه اصل الأنواع تفصيلا ضافيا، فكان لها دوي ارتجت له أركان الجامعات ومجامع العلم في أنحاء العالم، ثم جاء على الأثر فيلسوفنا سبنسر حيث استوى على ذروة بلك الموجة الفكرية فتناول مبدأ التطور وأخذ يطبقه على كل ناحية من نواحي التفكير. وها نحن أولاء نورد لك خلاصة موجزة لأهم ما جاء في كتبه من آراء.
١ - الحقيقة المغلقة، أو ما لا يمكن معرفته
يقدم سبنسر بين يدي كتابه (المبادئ الأولى) قضية لا يرتاب في صدقها، وهي أن كل دراسة تقصد إلى البحث في حقيقة الكون واستقصاء علتو، لابد أن تنتهي إلى مرحلة يقف حيالها العقل عاجزا لا يستطيع أن يدرك عندها من الحق شيئا، سواء سلك إلى ذلك سبيل الدين أو العلم أو ما شئت من سبل
ابدأ بالدين وانظر كيف يعلل ك الكون: هذا ملحد يحاول أن يقنعك بان العالم إنما وجد بذاته، لم يتفرع عن علة وليس له بدء ولا ختام، فلا يسعك أمام قوله هذا إلا أن تمط شفتيك جحودا وإنكارا، لان العقل لا يسيغ معلولا بغير علة، وموجودا سار في الحياة شوطا لا بداية له. . . ثم استمع إلى هذا الناسك المتدين، ها هو ذا يقص عليك علة الكون وكيف كانت نشأته، فخالق الكون عنده إنما هو الله العلي العظيم، ولكنك صلب عنيد، سترى انه لم يفسر من المشكلة شيئا، ولم يزد على صاحبه سوى أن أرجعها خطوة إلى الوراء، وكأني أسمعك تسائله في سذاجة الطفل ومن أوجد الله؟. وإذن فالدين بجانبيه - الإيمان والإلحاد - لم يستطع أن يقدم لك تعليلا واضحا معقولا.
خذ العلوم، فلعلك واجد عندها ما يرد حيرتك. . . سائل العلم: ما هذه المادة التي أراها والمسها والتي تغص بها جوانب الكون؟ انظر! ها هو ذا يحلل لك المادة إلى ذرات ثم إلى ذريرات أدق. ثم إلى أخريات اكثر منها دقة، ثم ماذا؟ هنا يقف العلم بين اثنتين، فهو إما أن يعترف بان المادة قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية له من الأجزاء، وليس من اليسير أن تسيغ