أن يوم الجمل هد منها ومن قوة نفسها لرأينا لها في عهد معاوية صولات وجولات ومع هذا فإليك مثلاً حادثة حجر بن عدي:
كان حجر من سادات أهل العراق ذوي السطوة والمكانة، ممن كانوا مع علي وبقوا على عهده بعد مماته، وقد تحدى سلطة الخلافة مراراً عديدة، وعبث بالأمراء الذين يرسلهم معاوية حتى ضاق به وبرهطه ذرعاً، فأمر بحمل حجر وأصحابه، ثم أشهد عليهم وقتلهم، بعد أن كثر الوسطاء في أمره نظراً لمكانته، ولكن ذلك لم يشف ما في نفس معاوية من الغيظ، وكانت عائشة أرسلت رسولاً إلى معاوية في ذلك، ولما وصل الرسول كان حجر قد قتل، فقال الرسول - وهو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - لمعاوية:(أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟) قال معاوية: (حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سُمية (يعني زياداً عامله) فاحتملت) وبلغ عائشة الخبر فحزنت أشد الحزن، وليس مثلها من يسكت لمعاوية، ولكن نكبة الجمل زعزعت عزائمها فصارت تخاف أن يجر الأمر إلى فتنة تراق فيها الدماء وهو ما لا تستطيع أن تتصوره، وقد أشارت إلى ذلك حين قالت:(لولا أنا لم نغير شيئاً إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر. أما والله إن كان - ما علمت - لمسلماً حجاجاً معتمراً)
ولما حج معاوية أستأذن على عائشة فأذنت له، فلما قعد قالت:(يا معاوية، كيف أمنت أن أخبأ لك من يقتلك؟) قال: داهية الأمويين (بيت الأمن دخلت!) قالت: (يا معاوية، أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه!) قال: (لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عليهم.)
وهكذا نال الخليفة العظيم ما يستحق من التأنيب في حجرة الرسول على لسان زوجته أم المؤمنين
هذه هي المرأة في صدر تاريخنا المجيد ولكم هو مقامها، فلننتفع بسيرتها ولنأخذ لزماننا من كل شئ أحسنه. أما عبرة هذه الحوادث: فهي أن المرأة لم تخلق قط لتدس أنفها في الخلافات السياسية. وكأن الله الذي جعل النساء لتربية الرجال وتدبير البيوت أراد أن يعظ المسلمين عظة عملية كلفتهم كل تلك الدماء المهراقة؛ ليعلموا: أن لو كان أمر من أمور الرجال يقوم بامرأة لقام بهذه السيدة الحصيفة التي أوتيت من المواهب الذكاء والعلم والصلاح ما لم يؤته رجال كثيرون. وبقية حرب الجمل مناراً في تاريخ المسلمين كلما نزغ