فكانت هذه هي أعراض الوحي: الارتجاف وتصبب العرق عارضان بدنيان، والغياب أو (الانئخاذ) عارض روحي، وقد كان في هذه الأعراض من العنف وحدة المفاجأة ما يناسب الإعجاز الذي يميز القرآن، ولكل فن بعد ذلك ما يناسب قدره من الأعراض، فكم ترتجف حضرتك قبل أن تكتب وكم تتصبب عرقاً، وكم تغيب عن هذه الدنيا؟
- إن شيئاً من هذا لا يحدث لي.
- إذن فأنت لست فناناً، فالفنانون يحدث لهم هذا. كلهم: الكاتب، والشاعر، والموسيقي، والرسام، والنحات، والممثل حين يرسم حدود دوره، ويفصل ملامحه. فالكاتب، إذا رضينا به مثلاً يعيش وهو مرهف الحس مشحوذ العقل كغيره من الفنانين فيرى في الحياة ما يؤثر فيها تأثيراً خاصاً يحدث انفعالاً نفسياً خاصاً، فإذا توالى عليه حدوث هذا الانفعال النفسي تربى عنده ما يسميه علماء النفس بالوجدان، وهم يعرفونه بأنه استجابة باللذة أو بالألم لما يحدث في النفس من الشعور، فإذا تجمعت عدة مؤثرات حول هدف نفسي واحد ولوّنها وجدان واحد بلون واحد فقد تخلقت في النفس عاطفة تحيط بهذا الهدف، ولا تلبث هذه العاطفة تنمو في النفس وتنمو حتى لا يعود حبسها ميسوراً فتتفجر إما فناً منظماً منسقاً، وإما دوياً روحياً لا نظام فيه وإن كان فيه كل ما في الفن أو ما يزيد على الفن بلاغه في التعبير. ففصول الألم والحزن التي كتبها كتاب الأرض جميعاً تخفض الرأس أمام أي دمعه صادقة خشوعاً وإجلالاً. . . فهل كتبت يوماً يا أستاذ ما كان بعض دموعك؟. . .
- وماذا يصنع الموسيقي؟
- ما يفعله الأديب، وكل ما بينه وبين الأديب من فرق أن الأديب يعبر عن نفسه بالكلام، والموسيقي يعبر عن نفسه بالنغم، ولعلك سمعت أنه كان للشاعر من شعراء الماضي راوية.
- نعم. وأحسب الشعراء كانوا يختارون رواتهم ممن قويت حافظتهم.
- كلا. وإنما كان الأمر على العكس من ذلك، فقد كان الرواة هم الذين يختارون شعرائهم، فالرواة لهم من الاستعداد الفني حظ كبير، وهم هواة حقيقيون. لعل الواحد منهم كان يعين شاعره على الحياة. ولقد كان الواحد منهم يشتري صاحبه بالدنيا وما فيها ويلزمه ويتابعه لا لشيء إلا أن ينعم منه بساعات الصفاء التي يتيحها له الزمن. وهو من شدة لهفته وحبه لصاحبه يحفظ عنه ما يقول لا يدفعه إلى ذلك إلا حرصه على هذا الكنز وخشية أن يضيع