أو يندثر. وقد كان يمر الوقت الطويل أو القصير فينسى الشاعر شعره ويعجز عن إعادته. أما الراوية فذاكِرُهُ ومعيده كُلما أراد إعادته، فهو من الشاعر كالجارية، ومن الشعر كالمربية يصونه ويدلله. ولعلك سمعت أن من المغنين من كان لهم أيضاً رواة، فكان المغني يطلق ما يهتاج في نفسه من الأحاسيس غناء لا يعبأ بأنغامه، ولا يرتب ألحانه، وإنما هو ينفث الزاخر في نفسه من العواطف، وكان الراوية يلقف منه فنه هذا ويرصده في نفسه ويثبته تثبيتاً، فإذا نزع المغني بعد ذلك إلى اللحن وجده عند راويته ولم يجده عند نفسه، ذلك أن الفن أنًّةٌ لا تصدر إلا مع الموجدة، فمتى صدرت لم يكن بد لترجيعها من موجدة جديدة، وإلا كانت في حرارة الذكرى ولم تكن في استعار النازلة
- إذن فأنت تنكر على الفنانين استلهام ماضيهم
- لست أنكر هذا ولا أستقبحه، ولكني أحفظ للفن المرسل مكانه المتسامي على مكان الفن المختزن، على أني لا أستطيع أن أخفض من قدر هذا الفن المختزن فقد يكون فيه من العنف والقوة ما في غضبة الحليم من الشدة والسعة. ومهما يكن الأمر فإن هذا خارج عن بحثنا، ومن الخير لنا أن نعود إلى ما كنا فيه. فهل هناك شيء تريد أن تستوضحه؟
- إنك قلت إن الفن إذا أخرج قبل أن يكتمل في نفس الفنان تخليقه لم يكن إلا سقطاً. فماذا تقصد بهذا؟
- لا ريب أنك قرأت لكتاب محببين إليك فصولاً أنكرتها عليهم. هذه الفصول كتبوها وهم كارهون لأنهم لم يكونوا استكملوها في نفوسهم ولكنهم لأسباب يعلمونها هم أخرجوها فكان هذا منهم إجهاضاً، وكذلك الأمر مع الشعراء والموسيقيين والنحاتين والرسامين وغيرهم من أصحاب الفنون
- هذا حسن. وكيف تتوالد الفنون بعد ذلك؟
هذه الفنون مخلوقات حية لا أجسام لها، وهي تعيش فيما بين النفوس والأرواح تغازلها وتعاشقها، فإذا طاب فن لروح تزاوجا وكان من نسلهما بعد ذلك فن ونفس جديدان في كل منهما ملامح من الفن القديم وملامح من النفس الأولى. ألم تسمع بالمدارس الفنية والمذاهب الفنية يا أخي؟. . . هذه هي ولكنا نقول عنها أسر وقبائل وشعوب
- يا سلام. . . وما هي هذه الأمراض الروحية التي تنحرف بالفنون وتنفث فيها السموم؟