شر، وذلك عين الحكمة حين ترين الغباوة على الأذهان
. . . ودلفت إلى الغابة فتاة فقيرة، عفة الضمير، طاهرة الأذيال، نقية الفؤاد، عامرة القلب بالإيمان، لا تملك من دنياها غير إنجيل عتيق يخيل إليها أن الله يحدثها من خلاله. علمت منه شرور الناس، وخبثهم السافل، ولكنها عرفت أيضاً أن علينا - حين نتلقى جورهم وعذابهم، ونقاسي سخطهم وسخريتهم - أن نذكر يسوع الطاهر، وأن يكون لنا فيه أسوة حسنة، وأن نردد معه قوله: (اللهم اغفر لهم، فإنهم لا يعلمون ما يصنعون)
ووقفت الفتاة أمام الغرس العجيب، وقد كانت زهرته تضمخ الهواء بأريج عذب لذيذ يترقرق في الأرواح، وتمض في الشمس كطاقة من النيران الصناعية
وعندما دغدغ النسيم أوراقها رنت في أذنها ألحان علوية، وأنغام سماوية
وظلت الفتاة في نشوة من اللذة، وغمرة من الذهول البهيج أمام هذه الأعجوبة. ومالت برأسها نحو الغرس. . . لتتأمله عن كثب. . . وتنشق أنفاسه الندية العطرة. . .
وشعرت بقلبها ينتعش ويتفتح. . . وبذهنها يستضيء بنور الحكمة الإلهية. ومدت يدها، وقطفت الزهرة، وفؤادها خافق بالسرور. ولكنها فكرت في أن في ذلك بعض السوء، وأن نضرت الزهرة ستذوى، وجمالها سيمَّحى. فلم تأخذ غير وريقة خضراء وضعتها بين إنجيلها، حيث ظلت رفافة الطراوة، بديعة الاخضرار
وتعاقبت الأسابيع، ووضع الإنجيل والورقة تحت رأس الفتاة في تابوتها
واستراحت الفتاة فيه بسكون، وفي قسمات محياها البديع الوديع تلوح سعادة خلاصها من الغبار الأرضي، ودنوها من الخالق
وفي أثناء ذلك طفق الغرس ينمو ويزهر، والعصافير العابرة تنحني أمامه بتجلة واحترام
وهمس الحسك والقرامي: (انظروا جيداً هذا الأجنبي. . . وهل يدرون لماذا يسفحون عبرة أعينهم ويريقون ماء أوجههم؟ أبداً لا نحذو حذوهم الغبي)
حتى دويبات الغابة السمجة، فقد كانت تبصق أمام الغرس الساقط من أوج السماء.
واقتلع راعي الخنازير، وهو يضم حِزم العوسج ليشعل ناره، عُلَّيْقاً وحسكاً وقُرّاصاً، وكذلك الغرس الوسيم بجذوره وقال في نفسه: (كل ذلك لا يصلح لغير طهي الطعام.)
وكان ملك البلاد تغشي روحه كآبة سوداء، ما كان شيء ليقشع دياجيرها، ويبدد ظلماتها