وسألت رجلاً هناك: أتعرف قبر الخليفة المأمون؟ المأمون ابن الرشيد مات هنا ودفن، فهل عندكم علم عن قبره؟ قال: لا. ولكن هنا شيخاً خبيراً بالآثار، لعل عنده علما. غاب عني قليلاً، وعاد يصف للحوذيّ الموضع! انتهى السائق إلى جامع كبير له سور عال ضخم كأنه أعد للقتال، وعلى مقربة منه خانات كبيرة، وبجانبه تكية مغلقة. دخلنا الجامع إلى صحن واسع يحيط به أروقة تمتد على جدار الباب، وعن اليمين والشمال، وفي وسطه حوض مظلّل؛ ويفصل الصحن والمسجد جدار دخلناه من باب، ومنه إلى مسجد مستطيل فيه ثلاثة عقود تقوم على صفين من العمد.
وفي الجدار الشرقي من المسجد كوة تطل على التكية المغلقة. نظرت منها فإذا مصلى مسقوف، وإذا ثلاثة قبور، أشار خادم المسجد - وهو حلبيَّ الأصل - إلى أقربها إلى الكوة. وقال: هذا قبر المأمون. قلت: أرأيت عليه كتابة؟ قال: أجل! وقد سألت ناساً في طرسوس وأذنة؛ فاتفقت كلمتهم على وصف القبر وموضعه! وأما المؤرخون، فقد أجمعوا على أن المأمون دفن في طرسوس. وأخبرني بعض العلماء العرب والترك أنهم رأوا القبر وقرءوا عليه اسم الخليفة المأمون!
هنا الخليفة العظيم!. . هنا الرجل العالم المحب للعلم والعلماء!. . هنا الملك العفوَّ الذي قال: لو علم الناس حبي للعفو لتقربوا إليَّ بالذنوب!. . . هنا عبد الله المأمون بن هرون الرشيد!. . .
(رحم الله أبا العلاء):
أنتم بنو النسب القصير فطولكم ... باد على الكبراء والأشراف
والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت ... بأب عن الأسماء والأوصاف
هنا أمير من أمراء المؤمنين يفتخر به تاريخ الإسلام، وحق على الأمم الإسلامية كلها على اختلاف أجناسها أن تشيد بذكره، وتعظمه في قبره!. . .
لقد رست قبور الخلفاء والعباسيين في بغداد وسامرَا. فلا يُعرف لواحد منهم قبر اليوم حاشا قبر هرون الذي طمس عليه عصبة الشيعة في طوس؛ وحاشا قبر المأمون الذي طمس عليه النسيان في طرسوس أو كاد.
تمنيت أن أجلس إلى قبر المأمون ساعة فأسجل ما توحيه إلى نفسي عظمة الماضي