العام الذي ينتظم الطبيعة، وخروجاً على سنن اطرادها؛ ويرون أن الإيمان بالنبوة لا يكون إلا بالإيمان أيضاً بهذا النوع من الأفعال الخارقة لسنة الطبيعة. فيقفون مترددين محجمين عن الإيمان بالنبوة والوحي، إذ يجدون في منطقة الإيمان بهما عقبة المعجزات الحسية. فيذهبون إلى تأويل النبوة والوحي بتخريجات لا تتفق مع الإيمان الصحيح ولا مع نصوص القرآن الصريحة، ولا مع منطق النبي نفسه؛ ومعنى النبوة التي أدركها هو في روحه وفكره، وحدثنا عنها، ووصفها لنا. فهم يحاولون أن يفهموا الوحي على أنه فيض ذاتي في النفس الإنسانية، وحالة إلحاح من فكرة الصلاح والحق على قلوب بعض محبي الإصلاح من البشر بعد إدراك تام للاتجاه العام في الطبيعة. فيخيل إليهم حين يدركون ذلك أن إرادة رب الحياة معهم ومنطقه في أفواههم وعقولهم؛ فيصدعون بالدعوة، وليس هناك وراء هذا اتصال بينهم وبين الله ولا حديث ولا شيء. وأما الخوارق التي كانوا يجرونها فهي أعمال ناشئة من يقظتهم وإدراكهم علماً من الطبيعة لم يدركه غيرهم. فيستخدمون ذلك في إقناع الناس.
هذه هي خلاصة مقالة منكري النبوة في العصر الحديث. وقد ألححت في مقالي الماضي في بيان النبوة كقانون من قوانين النشأة العقلية والروحية، وأنها أشبه بالعلاقة بين الأبوة والبنوة في الترتيب والإرشاد، وأنه ليس من المعقول أن تمضي الحياة الإنسانية من أول رجل إلى آخر رجل من غير سماع كلمة غير إنسانية مما وراء الطبيعة، وإلا لزم أن تهدر قيمة الإنسان أمام نفسه لأنه لم يسمع حديثاً من الحياة يحدد له قيمته ومكانه. . .
أما المعجزات الحسية فلو لم يحدثنا عنها القرآن حديثه القاطع بوجودها لكان لنا معها موقف آخر. ولكن القرآن المعجز الدائم يحدثنا عن ناقة خرجت من صخرة، وعصا انقلبت حية، وطير خرج من طين، وعن كثير من الآيات بحديث صريح لا يقبل تأويلاً ولا تخريجاً غير ما يحتمله لفظه. ولم يشر القرآن بأي إشارة إلى أن الأنبياء الذين جرت على أيديهم هذه الخوارق كانوا على علم بأسرار ما يفعلون، بل بالعكس يحدثنا أن موسى خاف وفر وولى مدبراً حين رأى عصاه تنقلب إلى ثعبان مما يدل على أنه ما كان يدري بسر ما يجري أمامه
إذاً فقد حبط قولهم إن تلك الخوارق ناشئة من إدراك النبي سراً من الطبيعة لم يدركه غيره