على الوحدة المسيحية، ولا على تقارب اللغات والأجناس. . .) (الصفحة ١٨)
إن هذه الآراء تستوقف النظر، وتستوجب المناقشة في عدة وجوه:
أولاً - يستعمل المؤلف في الفقرة الأولى تعبير (وحدة اللغة)، وفي الفقرة الثانية تعبير (تقارب اللغات). ولا أراني في حاجة إلى الإيضاح بأن الفرق بين مفهومي التعبيرين المذكورين كبير جداً
ثانياً - يسوي المؤلف - في كلماته هذه - بين وحدة الدين ووحدة اللغة في وجهة التأثير السياسي؛ ويدعي أن تأثيرهما في السياسة كان من خصائص القرون الوسطى، وأن أوربا تخلصت من تأثير هذين العاملين منذ عهد بعيد. . .
إنني أعتقد أن كل ذلك مخالف لحقائق التاريخ وقوانين الاجتماع مخالفة صارخة: فإن عمل وحدة اللغة في الحياة الاجتماعية والحوادث التاريخية، يختلف عن عمل وحدة الدين اختلافاً كلياً: يذكر التاريخ - بين حوادث القرون الوسطى والقرون التي تلتها - أمثلة كثيرة لعمل الدين في السياسة؛ كما يسجل وقائع عديدة تظهر تأثيرات مبدأ (حقوق الملوك) في تكوين الدول وتوحيدها؛ ويذكر أمثلة كثيرة لانضمام بعض الأقطار إلى أخرى، بسبب وقائع التزاوج والتوارث التي حدثت بين الأسر المالكة. ولكنه لا يذكر - بين حوادث تلك القرون - مثالاً واحداً عن تكوين دولة على أساس (وحدة اللغة)
إن وحدة اللغة لم تصبح من القوى الفعالة في تكوين الدول وتوجيه السياسات إلا في القرن الأخير، وإلا بعد أن فقدت (وحدة الدين) قوتها وتأثيرها في هذا المضمار. . . كما أن تأثير (وحدة اللغة) في السياسة لم ينته بانتهاء الفرق المذكور، بل أزداد شدة في القرن الذي نعيش فيه، وهو لا يزال مستمراً وشديداً. . .
ولهذه الأسباب أقول: إن قياس (وحدة اللغة) على (وحدة الدين) في هذا المضمار، والادعاء أنها فقدت تأثيرها السياسي وعملها التكويني منذ عهد بعيد. . . لا يتفق مع حقائق التاريخ، بوجه من الوجوه. . .
يقول المؤلف إثباتاً لمدعاه: إن السياسة شيء والدين شيء آخر. إني أوافقه على قوله هذا، ومع هذا أستغرب كيف يسوغ لنفسه أن يحشر اللغة مع الدين في الفقرات التي تلي هذا الكلام! فلنقل ولنصح مع المؤلف: إن السياسة شيء والدين شيء آخر، ولكننا هل نستطيع