عواطفه تتفتق عن نفحات عبقة ندّية، لم تلبث أن تخالجت في صدره، ثم ارتقت إلى لهاته، ثم سالت على عذبة لسانه، فإذا هي هذا الشعر يهتف به أول مرة في حياته:
بأبي! كرهت النار لما أوقدت ... فعرفتُ ما معناك في إبعادها
هي ضرّة لك بالتماع ضيائها ... وبحسن صورتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها ... بسيالها وأراكها وعرادها
شَرِكَتْك في كل الأمور بحسنها ... وضيائها وصلاحها وفسادها
فتظاهرت سعاد بأنها لم تسمع - وهي جدُّ سامعة - فخيل إليه أن شعره لم يند على قلبها، ولم يقع منها بموقع، فاتحه شطر النار يؤرثها بعود من الحطب - وهو يترنم بهذه الأبيات -:
وما عرضت لي نظرةٌ مذ عرفتها ... فأنظر، إلا مُثِّلت حيث أنظرُ
أغارُ على لحظي لها فكأنني ... إذا رام لحظي غيرها ليس يبصر
وأحذر أن تُصغي إذا بُحت بالهوى ... فأكتمها جهدي هواي وأستُر
فنصت إليه سعاد جيدها الناصع، ورمته بنظرة فاترة منكسرة ملؤها عتب رفيق! فاضطرب الفتى وصبغت وجهه حمرة الخجل، وأطرق ينكت الأرض بعود في يده، وأراد أن يذهب بالحديث مذهباً آخر، فعصب ريقه، وانعقد لسانه؛ فعاذ بالصمت مكرهاً كما عاذت هي به من قبل، وظلا بقية يومهما جامدين كالأنصاب
ولما كان من الغد بكر الفتى إلى المرعى تبكير ابن دأية، بعد أن قضي ليلة نابغية بجفن مؤرق ودمع مرقرق!
ولبث يرقب سعاد رقبة الهلال ليلة الشك ساعات ممضة فلم تحضر! فساوره القلق، ومالت به الظنون كل مميل! وكان أخوف ما يخافه أن تكون ابنة عمه قد اعتقدت فيه أنه خضع لبعض الأمر. فطفق يذرع الوادي إقبالاً وإدباراً، ويبلل رداءه بعبرات سخينة، حتى نال منه اللغوب، فسقط رازحاً بين طيات الرمال، ينشد:
مُتْ شوقاً، وكدت أهلك وجْداً ... حين أبدي الحبيب هجراً وصدا
بأبي من إذا دنوت إليه ... زادني القرب منه نأياً وبعدا
كيف لا كيف عن هواه سُلُوِّى ... وهو شمس الضحى إذا ما تبدّى؟!