الذي يطالبنا به الله فتحله محل هذا العقل الأوربي الذي لا يصدق فيه أسمه إلا من حيث إنه غلل الحس البشري وكتف الأخلاق كتفاً لا يسمح لها بالسمو إن لم يهبط بها إلى الحضيض.
عقل غاندي هو بشارة من بشائر الرقي الإنساني التي تسارع إلى الظهور في بعض مراحل التطور البشري، ولو لم تتأهب الإنسانية لإحسان استقبالها وإحسان استنباتها.
فما هي ميزة هذا العقل وما هو طابعه؟
إنه العقل النافذ الهادئ المنطلق إلى هدف يناديه من السماء والذي يدرك حقائق الأشياء وما بين الأشياء من علاقات منذ أن تعرض له هذه الأشياء، والذي يلهمه الإحساس الصادق فلا يخطئ في تقديره ولا تكييفه إياها، والذي تقوده الفضيلة إلى إحسان الموزانة بين الحقائق وبين الأشياء فيعرف أيها يأخذ لنفسه وأيها يدع، وأيها جدير بالاهتمام وأيها حقيق بالإهمال، وأيها لازم لتقويم كيان الفرد، وأيها لازم لصلاح المجتمع، وأيها بعد ذلك حشو للعقل يتخمه ولا يغذيه.
هذا هو العقل الذي زان الله به غاندي، وهو عقل ممتاز سام يدل على غاندي كما يدل عليه إحساسه وكما تدل عليه أخلاقه فهو عقل خاص نادر لأن غاندي رجل نادر، وهو بطبعه غريب على هذه الحياة وهذه الحضارة، غريب على علومها وعلى الأجواء التي يجول فيها عقلها، ولذلك فإنه يكاد يصعب عليه أن يصاحب العقل العادي وأن يماشيه، وإنما هو ينفر من ذلك العقل العادي بطبيعة تكوينه، والناس الذين يعتبرون الحساب، وعلوم الرياضة (المتسحلفة) مقياساً للذكاء يرون هذا الاختلاف بين عقل غاندي وبين عقلهم ويأبون أن يتلمسوا الضعف في أنفسهم، وينسبون الضعف والتأخر للعقل الخارق العجيب الذي يحيرهم والذي يرونه كالعاجز عن مجاراتهم، وهو في الحق مستقيم يتجه إلى هدف خاص ينزع إليه صاحبه بإحساسه وأخلاقه، فلا يلتوي على نفسه ولا يتعقد ولا يتعثر مثلما تتعثر العقول المتحضرة حينما تجمع علمها من المتناثرات من الحقائق لا يحدوها في هذا الجمع غرض ولا تريد من سبيله أن تصل إلى هدف ولا أن تؤدي به رسالة، ولا يهمها إذا كان هذا الذي تعلمه شيء يستحق أن يعلم أو أنه لا يستحق ذلك.
وهذا هو أشرف ما يدعيه العلماء لأنفسهم فهم يقولون إنهم يطلبون العلم للعلم، وهم حين