يدعون هذا يحسبون أنهم يردون به على أولئك الذين ينتقصون قيمة علمهم ويتهمونه بأنه سعى إلى خدمة المادة في الحياة، أو أنه سعى إلى خدمة الشر. فإذا صح هذا الذي يدعونه ولم نقس عليهم قسوة من يتهمونهم بمختلف التهم لم يكن علمهم إذن إلا ضرباً من الفضول أو التجسس على قوى الطبيعة. والفضول سخف، والتجسس رذيلة.
أما العلم الذي يصل إليه العقل الفضيل الحساس فليس فيه من الفضول شيء ولا من سخف الفضول، وليس فيه من التجسس شيء ولا من رذيلة التجسس، وإنما هو علم يطلبه صاحبه لأنه يحبه، ويرفض ما عداه لأنه لا يريد شيئاً غيره، وهو يسعى إليه لأنه يشعر أن فيه كماله، وأن في الوصول إليه راحته وأنه قبل هذا وذاك يرضي إحساسه وأخلاقه وينسجم معهما.
وهذا هو العلم الذي يبدو حين يطالع الناس وفيه من نفس صاحبه إحساس صاحبه وأخلاق صاحبه، كما يكون فيه من عقل صاحبه. فأي شيء يشبه هذا العلم؟ إنه يشبه الفن. وهو يشبه الفن من حيث أنه تعبير عن نفس صاحبه، ومن حيث إنه يحقق حاجة من حاجات صاحبه الروحية، وقد تشمل هذه الحاجة مطالب مجموعة خاصة من المجموعات البشرية وقد تشمل مطالب البشرية بأسرها.
هي إذن رسالة علمية عقلية، وهي قائمة على أساسين من الحس والخلق إلى جانب ما تقوم عليه من أساس العقل. وليس كل العلم هكذا، ولا كل العقول التي تجري وراء العلم هكذا. وإنما هي نفوس الفنانين التي تنحرف لضرورة من ضرورات الحياة عن إنتاج ما اصطلح الناس على اعتباره من الفنون الجميلة إلى أداء رسالات هي في ظاهرها غير هذه الفنون، وهي في حقيقتها فنون جميلة بل إنها أجمل الفنون. ذلك أنه إذا كان جميلاً أن ينشئ إنسان لحناً أو قصيدة أو تمثالاً أو صورة فأجمل من ذلك أن ينشئ إنسان نفس إنسان آخر، والأجمل الأجمل أن ينشئ إنسان جيلاً من النفوس في جيل من الناس على صور من خياله. وليس أجمل من أن تقوم رسالة فنية على أساس من الحب يطوى المؤمنون بها نفوسهم عليه ويهبونه لأعدائهم كما يهبونه لأصدقائهم: فتحيتهم سلام وغايتهم محبة، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.