الأجانب خلق كثير، عراقيون وهنود وأفغان ومن كافة العالم الإسلامي، وعلى الجدران يرتمي الكثيرون في خمول زائد وجلهم ممن أضناهم المرض وشوه البؤس أجسادهم، ويتوسط أحد الأفنية سبيل مذهب في داخله نافورة حولها السلال تحمل القعاب للمحتسين ويشرف عليهم كهل توقد حوله الشموع صباح مساء وبين آوية وأخرى يمد مغرفة يحرك بها الماء والسعيد من استطاع أن يتذوق هذا الماء الطاهر: أخيرا دخلت الضريح الفضي وإذا المدفن وسط شباك الفضة والذهب ترصعه الجواهر الثمينة وقد أتممت تطوافي حوله في ثلث ساعة كدت أختنق خلالها من كثرة الزحام وهنا رأيت عجباً: نواح وصياح ولطم وتقبيل واستلقاء على الأرض ولمس للأعتاب بالخدود وما إلى ذلك مما تقشعر له الأبدان. هنا أسرع شيخ يطوف بي وناولني أدعية مطبوعة يجب أقرأها وأركع أسجد وأقبل، فأسرعت بالتخلص منه بفضل زميل فارسي عرفته، فخاطب المطوف قائلا بأنني عالم قارئ بكل أولئك، وقد علمت بعدئذ أنني لو رفضت الإذعان للأمر وحدي لظن أني ملحد ولكان ما لا تحمد عقباه، وبجانب الضريح قبر هرون الرشيد غير أنه منبوذ في ناحية غير طاهرة وقد وضعوه بحيث يلمسه الزائرون بأدبارهم عندما يطوفون حول الرضى وذلك احتقارا لشأنه وكثير منهم يلعنه بعد الزيارة ويركله برجله ووجهه مقابل للأمام ويقول (لعن الله المأمون وأباه) وذلك لأنه سني أولاً، ثم لأنه والد المأمون الذي اتهم بدس السم للإمام، وقد سافر الرشيد إلى هناك في حملة ضد أحد الحكام الذين مالأوا بني أمية، فوافته منيته هناك فأوصى بأن يدفن في هذا المكان الذي أقام عليه الاسكندر المقدوني علماً، ونبأ بأنه سيكون مدفن رجل عظيم، ولما جاء المأمون ولى الرضى حاكما على تلك البلاد من قبله، ولما عاد إلى بغداد وتم له الأمر دس للرجل فمات ودفن إلى جوار الرشيد. خرجت إلى الفناء وإذا في كل ركن من أركانه عالم يرتقي منبرا وحوله خلق كثير جلوس على الأرض في وجوم وشبه ذهول وهو يقص عليهم أنباء الإمامين علي والحسين وجميعهم يبكون، وكلما أشار في قوله إلى الفاجعة صاحوا ولطموا جباههم وخدودهم في فرقعة مؤلمة ومنهم الطفل والمراهق والسيدة والعجوز والكهل الفاني والمتفقه والأمي الجاهل، وذاك التبشير يضل سحابة اليوم في جميع أركان الأفنية. ولما أوشك الغروب سمعت من شرفة الباب الأوسط طبولا تقرع في نقرات مثلثة ثم أعقبها صياح وتلا ذلك نفخات في أبواق طويلة