تنظمه نظاماً آلياً قوياً لا يشذ، ولا يحيد؛ فإذا ما أدرك ذلك صرح:(قد فررت من قدر الله فإذا هو أخو الحياة، هل أطأ على غير الأرض، أو أبرز من تحت السماء؟! أد لجت فأصبح أمام المدلجين، وهجرت وهو مع المهجرين. قال وعرس مع القالة والمعرسين). فلا يمكن للمرء أن يحيد عما يراد به، فهو مجبور على ما يأتي من أفعال (والمرء يقدر ولغيره الأمور، يحسب انه يملك ويحوز، كذب! لله النفوس)، وليس أصرح من هذا النص ولا أدل في بيان فكرته:(إنما أنا فرير في ريق. قد أعدت له المدية، ينتظر به أمر الملك فتجري الشفرة على الأوداج) وإن ذلك ليزعجه، ويقلق خاطره فيقول:(شغلني عن النسب، وقول في النسب، أني أسلك من الحمام نيسباً، أذهب النوم وأطال الأرق واقل رغبتي من الشرف أني لا أجد عن ذلك مذهباً (أينما تسيروا يصحبكم الله كما صحب من كان قبلكم، وله من العلم عين علنكم، وإن تصبحوا وراء شق الثعلب فالقدر معكم، لا فرار من قضاء الله) فهو يوصي بعد ذلك أن (اصطبروا على ما حكم إنه واعي الكلمات) و (دع الأقدار وما تريد فأنها لا تصرف على اختيار المخلوقين. واعلم أن رزيتك لا تهجم على أحد إلا عليك) و (من عند الله سعد المجدودين) و (الشر على جبهة فاعله موسوم) و (ربك أولوع بالأنفس غرامها) فهو يستكين، ويستسلم استسلاماً شديداً حين نضرب مثل القطاة التي (تنزل إلى شرك الوليد، وهي فرحى بما لاح لها من الرزق، فيؤول أمرها معه إلى أحد ثلاثة أشياء: سمطٍ مزعفٍ، أو سجنٍ حرجٍ، أو عذابٍ مبرحٍ، فأمس بما فعل ربك راضياً).
هذه الفكرة تقوم من فلسفة المعري في (الفصول والغايات) مقام الوزن في القصيدة. فهو خفي ولكنه يحكم القصيدة فلا يخرج عليه بيت أو جزء من بيت. وهي قطب تدور حوله الأفكار بمعانيها المختلفة وألفاظها المتباينة. فكل تفكير المعري إذن يدور حول هذه الفكرة أياً ما كانت صوره ومعانيه وألفاظه. فإذا ما نظر في المجتمع فمن وراء هذا المنظار؛ وإذا ما شمل الكون بتفكيره فعلى هذا الهدى. وهو قد يصطنع من الأساليب الغريب، ومن فنون الكتابة ما يصرف المرء إلى ظواهر الأشياء؛ ولكن الأمر لا يزال عندما قررت من قبل. فلو تخطينا حاجز الظاهر المختلف ألوانه وصوره، ونفذنا إلى ما وراء هذا الظاهر لألفينا الأمر منضبطاً يدور على ما وصفت، لا يكاد يشذ عن ذلك بشيء إلا ما أملته التقية حيناً، وفرضته الأهواء السياسية حيناً، وأوحى به عبث النفس حيناً آخر.