وتفكير أبي العلاء في الجبرية يتخذ صورتين غير متباعدتين إلا تباعد الشيء عن مظهره، فهما يبحثان في الكون وأحد مظاهره وهو الاجتماع.
وأول ما يشغله في الاجتماع الأرزاق (والأرزاق عجب يقسومها) إذ أن الرزق لو أن له (لساناً هتف بمن رقد، أو يداً لجذب المضطجع باليد، أو قدماً لوطئ على الجسد، لا يزال الرزق مرنقاً على الهامة ترنيق الطير الظماء على الماء المطمع، فإذا صفر من الروح الجثمان، صارت تلك الطير نباديد)، (فأرد من حيث شئت ولا تبل، أمن واد أتاك الرزق أم من جبل. فان ألطاف الله طارقتك من كل أوبٍ) وهو يدعوك إلا تحزن، ويؤكد لك أنه (ليأتينك رزقك ولو جمع من أشتات).
(وذلك بقدر الله لا بسعي الساعين) وهو يلاحظ إلى ذلك أن من الناس من لا يعمل ولا يجد ولكنه يظفر بما يظفر به ذلك العامل المجد (الله علم بعارٍ خرص، ضيق رزقه وإن حرص، وآخر تغدو عليه منعمة بيضاء، قطعت إليه الفضاء) فهو يرى أن كثيراً منهم يبذل جهداً كبيراً فلا يظفر بشيء (فالموفق أين اتجه غانم، والمجدود أين يقع لا يظفر بالنجاح) وأنه ربما عس جد، فأتاك بعسجد، وأنت هارج الأحلام).
فهو يلحظ في كل هذا أن الرزق ميسر لك (ما سعت فيه القدم ولا عرق الجبين) وهو يردد ذلك المعنى في اللزوميات كثيراً.
سبب الرزق للانام فما يُق ... طع بالعجز ذلك التسبيبُ
وهو يلحظ أن هذا التسيب يجري في عسره ويسره على قواعد خفية غير مفهومة:
جدَّ مقيمٌ وخابَ ذو سفر ... كأنه في الهجير حرباء
أقضيةٌ لا تزال واردةً ... تحارُ في كونها الألِبَّاء
وهو يلحظ إلى هذا إرادة علوية تسخر من محاولات البشر وتقديرهم (فالمرء يقدر ولغيره الأمور، يحسب أنه يملك ويحوز. كذب! لله النفوس).
ولم يقتصر بفكرته هذه على الإنسان وإنما شمل بها الحيوان من ناحية الرزق والمقدور معاً. أما من ناحية المقدور فهو كالإنسان تجري عليه الأقدار - غامضة مبهمة - لا يدله فيها أو علم له بها فيدرأها. فالمخلوقون جميعاً (يحيدون من خطب إلى سواه والحمام ساقة جيوش الخطوب. ما ألطف صانع الظبية تنظر بجنحى ليل، وترفع هدال الشجر بقضيي