للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ظلام، وتلبس حلة الوبر وتطأ على مثل المحار، أغلقتها أمس الحبالة فخلصت بالجريض، وصادفتها في اليوم ضراء المكلب فكاد إهابها ينقذ عن قلب مروع، وسلمت بعد الشد المحيص، وفي الغد تنتظمها بعض سهام المرتمين، فلم يغنها الفرق من الأحداث). وهو يسوي بين الحريص والأخرق من الحيوان والإنسان في المقدور (ما خشف ذو خرق وقع في حباله آبق، فنشق أشد النشق، أعيا بخلاصه مني بالخلاص).

ومن ناحية الأرزاق كذلك تجري عليه في نفس الغموض الذي تجري به على الإنسان: تيسر للظلم الحص وإن سعد فالهبيد، فينمو على الحص والهبيد؛ وتخص الإبل بالسعدان، فيغذو الإبل هذا السعدان، وكذا الخيل تنمو باليعضيض. ثم إن الحمار لا يكاد يصبر على عطش والظبي طويل صبر على العطش، فهو يسجل هذا جميعاً ويتساءل لم خصت الطبيعة هذا بذاك ولم تخصه بغيره، ولم لم ينتقل الظليم إلى المراعي والأرض (الغراء المتألقة) فيسعد بالعشب والنبات؟

أذن فالحيوان كذلك لا تسير عليه الأرزاق حسب قاعدة مفهومة. فنحن لا خيرة لنا أذن في تقبل هذا ورفض ذاك، لا خيرة لنا في كسبه وملاءمته للطبع والانتفاع به.

فهو يكل الأمر جميعاً إلى نظرية الجبرية والجبر المطلق الذي لا تقيده إلا هذه القيود التي لا يتبين أبو العلاء علام كانت وبأي حكمة بنت أحكامها في العطاء والمنع، في الخفض والرفع. وعلى ذلك فهو لا يلوم المجتمع من هذه الناحية، ما دام الناس ليس لهم بما يجري بهم يدان، وليس لهم في أرزاقهم تصريف. أذن فما يكون من فروق بينهم بنيت على هذه الأقدار والأرزاق فهي تافهة وليست بذات خطر ولا أهمية.

ونحن إذا وصلنا إلى هذه المرحلة من تفكير أبي العلاء نجد أنفسنا أمام رجل يثور دواماً على المجتمع ونظامه، يعدد آثامه وأخطاءه يائساً من إصلاحه والسير به إلى الخير والعدل والأمان، حامداً فلسفته التي ألهمته الاعتزال (فإن الوحيد في العالم لا يلحقه عيب من سواه)، ويدعو إلى إصلاح بالتعاطف والتراحم والمودة.

وثورته على النظام الاجتماعي نتيجة مباشرة لآرائه الجبرية. فهو كما قلت لا يريد أن يبني أحكاماً على أشياء سبق بها القدر فهي خارجة عن حدود تصريف البشر: لا يريد أن يرفعك المال أو فضل أتاك به الجد والمقدور، وهو لا يريد أن يحقرك لفقر لم تكن لك به يدان

<<  <  ج:
ص:  >  >>