للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكان الذي يغضب الأمة والوزارة في الواقع أشد الغضب وآلمه تدخل الإنجليز في تلك المسألة التي لا صلة لهم بها ولا شبه صلة، وأحست الوازرة أن غرضهم هو إحراجها فحسب، ومن هنا اتخذت المشكلة مظهراً دقيقاُ غاية الدقة خطيراً كل الخطر، فلقد وجد الوطنيون البلاد تلقاء موقف تمتحن فيه الكرامة الوطنية والعزة القومية، ورأوا الظروف تعود من جديد فتظهر للخديو أن لا سبيل له إلا سبيل الوطنيين لأنه بانحرافه عن هذه السبيل إنما يطعن البلاد طعنة نجلاء في صميم قوميتها.

ولقد فرح المستعمرون، لا ريب، أن تتعقد المشكلة على هذا النحو، وزاد فرحهم أنها من صنع أيديهم، لذلك كانوا لا يألون جهداً في العمل على تفاقمهما بكل ما وسعهم من مكر وخبث، وراحت صحفهم تزيد نار الخلاف اشتعالاً، لا تتورع ولا تتوانى ومن ورائها رجال السياسة ورجال المال يصورون مصر في أشنع حالات الفوضى والاضطراب، فلقد سيطر رجال العسكرية وسيطر زعيمهم عرابي على كل شيء حتى ما يقف في طريقه حائل من قانون أو التزامات حتمتها الديون والظروف على مصر.

وكان الخديو في الواقع تلقاء آخر فرصة يستطيع أن ينقذ بها مصر مما كان يبيت لها، ولكنه ألفى نفسه سليب الإرادة أمام إرادة الإنجليز، بل لعله فرح أن يلطم وزارة البارودي لطمة يتخلص بها منها ويتخلص بذلك من عرابي الذي بات يغار منه أشد الغيرة حتى ما يطيق أن يسمع اسمه. . . وليت توفيقاً تحرك من تلقاء نفسه، إذاً لهان الخطب وخفت وطأة البلوى على النفوس فقد كان يمكن أن يقال يومئذ إنه ارتأى رأياً، وإنه ينتوي الخير أو ينتوي الشر حسب ما يرى، ولكنه وا أسفاه كان يقوى على الوطنيين بضعفه فلم يك يريد شيئاً وإنما كان يراد له كل ما يأخذ أو يدع من أمر.

وبدا لماليت فأوعز إلى الخديو أن يتخلص من المأزق بعرض الأمر على السلطان، وحجته أن عثمان رفقي يحمل لقب الفريق، فلا يجوز لأحد غير السلطان أن ينزع منه هذا اللقب. وسرعان ما فعل توفيق كما أشار به ماليت فزاد الأمور ارتباكاً وتعقيداً.

ولقد أخطأ ماليت خطأ كبيراً فيما أشار به، فإنه جر بذلك تركيا إلى الدخول في ذلك النضال، الأمر الذي كانت تحذره الدولتان أعظم الحذر وإن كانت إحداهما تخفيه، بينما الأخرى لا تتحرج من أن تعلنه في كل مناسبة وتبديه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>