أما الوطنيون فقد غضبوا لذلك أشد الغضب، ورأوا فيه ضرباً جديداً من لؤم ماليت، فاجمعوا أن يمنعوا تدخل تركيا مهما كلفهم ذلك من وجوه الصعاب والمشاق. وبلغ الغضب برئيس الوزراء أن يعلن في عزم مصمم (أنه إذا أرسل الباب العالي أمراً ينقض حكم المجلس العسكري على الجراكسة السجناء، فإنا لن نطيع هذا الأمر، وإذا أرسل الباب العالي من قبله مندوبين، فسوف لا نسمح لهم أن يهبطوا مصر، وسوف نردهم بالقوة إذا لزم الأمر).
وهذه لا ريب ثورة غضب من البارودي نعدها من أخطائه. فلقد أفضى بهذا التصريح إلى ماليت، وهذا أرسله إلى حكومته وإنه لشديد الاغتباط به إذ يسوقه دليلاً على أن الأمور قد بلغت غاية التحرج؛ ثم إنه يسوقه من الجهة الأخرى دليلاً على صحة ما ذكره مراراً وهو تسلط زعماء الجيش واستهتارهم بكل سلطة. ولم ينج عرابي من حملات الكائدين له وحمل مسؤولية هذا التصريح كأنما كان هو قائله، وأرجف المرجفون أن البارودي إنما يعمل بوحي من عرابي الذي يعتبر الحاكم الحقيقي للبلاد!
الحق أن البارودي قد أساء إلى القضية إساءة كبيرة بهذا التصريح. فهو فضلاً عما ذكرنا، إنما يتحدى السلطان في ذلك الوقت العصيب فيضيف إلى أعدائه عدواً جديداً، وإن الذي يحيط به الأعداء من كل جانب لجدير به أن يحتال ليستل السخائم من صدورهم، أو ليكسب من الأعوان والأصدقاء من يكونون له في الشدة قوة وسنداً.
ولعل البارودي كما نفهم من المسألة المصرية يومئذ في جملتها، كان يكره تدخل السلطان العثماني كما يكره تدخل إنجلترا وفرنسا؛ ولم يك ذلك عن حب في استقلال مصر ورغبة في سيادتها، وإنما كانت لهذا الرجل أطماع جليلة الخطر. فكان يتطلع ببصره إلى عرش مصر، وكانت توسوس إليه نفسه أنه بهذا المركز جدير ففي عروقه دماء الحاكمين منذ القدم. فهو كما يزعم من سلالة الأشراف (بارسباي)، وعلى ذلك، فقد كان جده من زمن بعيد على ذلك العرش الذي تنزع اليوم إليه نفسه، والذي يخشى أن تشايع تركيا الأمير عبد الحليم فيتربع فوقه إذا أخلى من الجالس عليه.
وكانت النتيجة المباشرة لهذا التصريح استحكام الأزمة بين الوزارة والخديو. فلقد رأى توفيق انه أصبح في الواقع وليس له من الأمر شيء. فإذا كان البارودي يقف هذا الموقف