لا صلة لهم بالعقل ولا بالعلوم إلا ما يرد عنهم اتهام الناس إياهم بالجنون، وفنانون لا صلة لهم بالعقل ولا بالخلق، ومنهم من يرميه بالفسق إلى جانب الجنون. وهكذا أيضاً كان في الناس علماء لا صلة لهم بالحس فهم باردون، وعلماء لا صلة لهم بالحس ولا بالخلق، ومنهم من يرميه الناس بالجشع إلى جانب البرود. وهكذا أخيراً كان في الناس فضلاء تنبعث الفضيلة من أنفسهم فينالها من يكرههم كما تصيب من يحبهم لا يحبسونها ولو أوذوا، فلا هم عقلاء يحذرون كما يحذر غيرهم من العقلاء، ولا هم يحسون الشر فيما يحسون، وهؤلاء من بين أصحاب الفضيلة هم الأتقياء الزاهدون المضحون المظلومون.
وكل فرد من هؤلاء الأفراد الخارقين في نواحيهم الخاصة، والمتسامين فيها على مستوى الجمهور يعتبر عبقرياً في ناحية وإن أحصت عليه الإنسانية النقص في الناحيتين الأخريين، فما تزال العبقرية في نظر الناس ضرباً من ضروب الشذوذ، أو هي في الحق كذلك ما دامت تنحو إحدى نواحيه فقط.
فإذا أنكرنا على الإنسان أنانيته وطالبناه بان يرعى خير الإنسانية في كل عمل من أعماله وعلى الخصوص في تلك الأعمال التي تتصل بغيره وتؤثر فيه فإننا لا نملك إزاء الفنانين إلا أن نطالبهم بأن تتضافر نواحيهم الثلاث في إنتاجهم الفني كما نطلب ذلك من العلماء، وكما نطلب ذلك من أهل الفضيلة. فالفن أو أكمل الفن هو ما أرضى العقل والخلق إلى جانب ما يرضي الحس، كما أن العلم أو أكمل العلم هو ما أرضى الحس والخلق إلى جانب ما يرضي العقل، وكما أن لفضيلة أو أكمل الفضيلة هي ما أرضى العقل والحس إلى جانب ما يرضي الخلق.
هذا إذا راعينا أن الفنون والعلوم والفضائل هي أهداف الإنسانية التي تلح في سبيل الوصول إلى استكمالها موحدة منسجمة متزنة. فإذا لم ندقق كل التدقيق في هذا، فإنه يجوز منا أن نبيح للفنان أن يحاول السير في طريقه بالحس وحده، وللعالم أن يسير بالعقل وحده، وللرجل الفاضل أن يسير بالخلق وحده.
ولكن للإنسانية مثلاً عالياً تنزع إليه وتريد أن تلحقه وإن اختلفت صوره في أذهان الناس. ونحن إذا ما حاولنا أن نستخلص من بين هذه الصور الصورة التي نعتقد أنها أصدق صور الكمال فإننا عندئذ سنستطيع أن نتصور إلى جانبها صورة للإنسانية تكون هي اقرب صور