السهول ننعم فيها النظر فنرى من جمالها كل لحظة ما لم نكن رأينا. . . حتى بدت أوائل الكروم، كروم (دوما). . . منذا الذي لم يسمع بها؟ تلك التي طارت شهرتها في الآفاق، فأسكرت بمشهدها العشاق وذوي الأذواق، كما أسكرت برحيقها من كان من أهل الرحيق. فقالوا: هذه هي الغوطة؟ قلت: لا. بل هذه كرومها، فانتظروا الغوطة التي فتنت أجدادكم من قبلكم، وفتنت من قبلهم الروم والفرس، وتفتن كل ذي لبَّ إلى يوم القيامة!. . . وسرنا خلال (الكروم)، وهي تمتد عن أيماننا إلى حيث لا يبلغ البصر، و (المناطر)، قائمة على العيدان الرفيعة، منثورة في الأرض، ضاربة في السماء، لا يحصيها العدَّ، كأنها أعشاش العاشقين، أو منارات يؤذن فيها دعاة الغرام، تبعث في النفس ذكريات الحب الدفين (وفي نفس كل إنسان منه ذكريات)، فتعيد الحب حياً. وسرنا خلالها حتى بلغنا (الغوطة)، فسلكنا جانباً منها يحاذي دوما وحرستا. فقلت: هذه هي الغوطة! وسكت فلم أعرفها لهم، ولم أقرظها، بل تركتها تقرظ نفسها. . . ففعلتْ وأربتْ على ما كان في الخيال منها؛ فذهب الإعجاب بالقوم كل مذهب، ونال من نفوسهم كل منال، فسكت اللسان، ونطق القلب، وقالت العينان، وشحّت اللغة، فما تبضّ إلا بقطرة ما فيها ري ولا بلل. . . وهل في اللغة إلا أن تقول: جميل ولطيف ومدهش وعظيم؟ أو ليس الجمال مائة ألف نوع؟ أو ليس للدهشة مثلها من الأسباب؟ فأين الكلمتان الجامدتان من هذا العالم الحيّ؟ إننا معشر البشر ما تعلمنا النطق إلى اليوم
وبلغنا دمشق، فقلت للقوم: إن في سفر الطبيعة صفحات مختلفات، في كل بلد صفحة منها. فسهل وجبل وواد وصحراء وبحر ونهر. . . فتعالوا أشرف بكم على صفحة فيها كل الصفحات. تعالوا أطلعكم على دمشق، وقد رأيتم منها سهلها وغوطتها، لتروا جبلها وصحراءها وواديها!. . . فأبوا عليّ، وجنحوا إلى الهرب، وتعللوا بالتعب، وأصررت وأبيت. . . فرأيتهم لانوا كارهين، فاغتنمت لينهم، ولم أبال كراهيتهم، لعلمي أن ما سيرون سيقع منهم موقع الرضا وفوق الرضا. . . وأخذنا سيارة من المرأب (الكاراج) الذي استودعناه حقائبنا، إلى (الدار) التي استأجرها لنا أخي. . . في (الجادة الخامسة). فما انعطفت بنا السيارة نحو (طريق الصالحية)، وشاهد أصحابنا البيوت ترتقي في الجبل، وهو يجلسها في حجره، ويحوطها بذراعيه، وينحني عليها برأسه الهائل المتوج بالصخر،