حتى تبدَّل سخطهم رضا، وطفقوا يسألون!. . . فقلت: أما الذي إلى اليمين، حيث البيوت الواطية المتلاصقة، والمآذن الكثيرة السامقة، والقباب، فحيّا الأكراد والصالحية؛ وقد أنشأ حي الصالحية الجد الأعلى لآل قدامة، أو آل المقدسي حين نزح إلى دمشق منذ ثمانية قرون فراراً من فلسطين وما حاق بها يومئذ من المحنة. فأحيا الله به وبأسرته العلم في تلك الديار، ونشروا فيها المذهب الحنبلي، وظهر من أسرته علماء فحول كالضياء المقدسي ويوسف بن عبد الهادي قريع السيوطي وشبيهه في سعة علمه وكثرة تصانيفه. . . ولكن الله قدر للسوطي من نشر علمه، وطوى علم يوسف في سجلات دار الكتب الظاهرية. . . ولا تزال آثار هذه النهضة العلمية العظيمة ظاهرة في المدارس الكثيرة القائمة في السفح وبين البساتين. . . ثم تتالى بناء المدارس في الصالحية، حتى أن شارعاً يدعى الآن: شارع (بين المدارس) في الشركسية يحوي أكثر من عشرين مدرسة باقية قبابها وأبوابها، فضلاً عما اندثر منها. وآخر هذه المدارس وأعظمها المدرسة العمرية، أنشأها الشيخ أحمد بن قدامة المقدسي - في منتصف القرن السادس الهجري - ونمت حتى صارت (جامعة)، ودعيت بالمدرسة الشيخة؛ ثم تضاءلت حتى رجعت اليوم خراباً كأكثر مدارس الشام، واختلس الجيران ما قدروا عليه من ساحاتها وأبهائها، فأدخلوها بيوتهم. . . وأما الذي إلى اليسار فحيّ المهاجرين، وقد كان قبل ثلاثين سنة جبلاً أجرد، فأسكن فيه ناظم باشا (المهاجرين) من (كريت) بعد عدوان اليونان عليها، وبنى لهم أكواخاً صغيرة؛ ثم حال الحال فصارت قصوراً للأغنياء، غير أنها لا تزال بقية من تلك الأكواخ خلال القصور، ولا تزال قطع جرداء من الجبل أو صخور ماثلة بين الدور. . .
وذهبت السيارة ترتقي في الطريق الصاعد إلى (المهاجرين)، وكلما علونا فيه شيئاً، بدت لنا من دمشق والغوطة أشياء، حتى إذا بلغنا نهاية الطريق الذي يمشي عليه (الترام) انكشف لنا أعظم منظر تقع عليه عيني: من ورائنا الجبل الفتان (قاسيون)، وهو في الجبال كالفتى الغرانق في الرجال، قوي ولكنه وديع، وحلو ولكنه عظيم؛ وعن أيماننا جبل المزة ووادي الربوة، ذاك الذي يجري فيه بردى في السبعة الأنهار: يزيد وتورا وبردى وبانياس وقنوات وعقربا والديراني؛ تتسلسل كأنها أطواق اللؤلؤ على أحلى جيد، تمتد من صلب هذا الجبل حيث يجري (يزيد) إلى سفحه، حيث يمشي (تورا) من تحته، إلى أسفل الوادي، إلى