سفح الجبل الآخر، إلى صلبه؛ والأشجار على ضفاف الأنهار كلها، والشلالات تنحدر من الأعلى إلى الأدنى تتكسر على الصخور، وتنحط، تخالطها أشعة الشمس فيكون لها بريق ولمعان كلمعان الماس، وأين منها لمعان الماس؟. . . وعن شمائلنا الفضاء الرحب، تملؤه الغوطة كبحر ما له آخر، أمواجه خضر. . . وتقوم في وسطه دمشق، دمشق الجميلة، دمشق القديمة، دمشق الخالدة! والجامع الأموي في وسط البيوت تظلله قبة النسر، كأنه رجل طوال واقف بين صبية صغار؛ ومن الدور التي شبهناها بالصبية ما فيه سبع طبقات، ولكنه الأموي معجزة البناء الإسلامي. . . ومناراته الثلاث الهائلة. . . يا لدمشق ومناراتها السبعين والمائة، وغوطتها وبرداها!. . .
قلت: هل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟ هذا الجبل، وهذا الوادي، وهذه السهول، وهذه البساتين، والصحراء صحراء المزة. . . وأنت تجوز بهذا كله ماشياً على قدميك في نصف ساعة. . . وهنالك البحيرة تبدو لكم من وراء الغوطة. فهل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟
قالوا: لا والله، إلا أن يكون البحر، وهذا بحر من الخضرة شهدنا أنه لا إله إلا الله، وأن دمشق أجمل بلاد الله!
قلت: شهدتم وأنتم في (الجادة الأولى) فكيف إذا صعدتم إلى (الجادة الخامسة)؟
وبعد. . . فيا أسفي على أيامي التي قضيتها ساكناً في (البلد) ويا عجبا من قوم عندهم (حيّ المهاجرين) ويقطنون في غيره، وعندهم قاسيون ونيامون (تحت) في السهل! وكيف يؤم الناس المصايف، ويذهبون إلى بلودان ولبنان، وهنا (الجادة الخامسة) لو حلف رجل بأوثق الأيمان على أنها أجمل من لبنان، وأعذب ماء، وأطرى هواء، لما أثم ولا حنث؟
اللهم عفوك! فإني والله لا أستحق هذه النعمة، وما لي على أداء شكرها طاقة!
ينظر ساكن البلد فلا يرى حوله إلا قليلاً مما يُرى. فيحس أنه في دنيا صغيرة تافهة، فإذا قطن (الجادة الخامسة) تكشفت له الدنيا، وتعرت، فرآها في زينتها وفتنتها، فأحسّ انه مع رفيق يؤنسه وحبيب يسليه، حبيب تراه في الصباح كغادة جميلة في جمالها طهر، وفي عينها صفاء، توحي إليك التأمل، وتسمو بك فوق الشهوات، وتراه في ضوء القمر كآنسة مغرية فتانة تهيّج في نفسك الحب، وتشعل في أعصابك النار؛ وتسمع من الجادة الخامسة: