للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كلمة الخلود في دنيا الفناء، تتجاوب بها مآذن الحيّ، وتبصر المنارات تضيء في الليل من كل جانب فيسمو بك النداء حتى تحسّ أن هذه (الدنيا) قد سمت كلها، حتى صارت هي (العليا). . .

فما أعظم (الأذان) عند من يسمعه من (الجادة الخامسة)!

ينادى في الفجر الساكن الخاشع، لا يشغلكم سكونه وسحره عن عبادة الله والاتصال به!. . . وينادي في النهار الكادح العامل لا تصرفكم الدنيا عن صلاتكم ودعائكم!. . . وينادي والشمس تغيب من أعالي الجبل فيدرك ذروته المساء والبلد والغوطة سابحة في نور الشمس، وينادي حينما يعم الدنيا سحر الغروب، وينادي حين يبدأ الليل، وتستعد الفضيلة للنوم، وتتهيأ الرذيلة للسهر!. . .

في (الجادة الخامسة) يشعر الإنسان أنه يندمج بهذا الكون فيأنس به، ويطمئن إليه؛ ثم إذا هبط إلى البلد فكر فيه واشتاق إليه!. . .

كل شيء في (الجادة الخامسة) ساكن حالم، أما (البلد) فكل ما فيه مضطرب متوثب. . . هنا الشعر والتأمل؛ وهناك. . . هنالك تحت هذه السقوف التي تظهر خاشعة في ضباب الصباح، ووهج الظهيرة، وظلمة الليل. . . خلاف وتنازع على الرياسة، وانقسام وفشل. . . هنالك هبطت قيم الأخلاق وأمحى الإيثار، فالأخوان يصطرعان، والعدو - عدوهما معاً - واقف يصفق لهما ليهيجهما، لتخور قواهما ويسقطا من الإعياء، فيقبل ليفعل بهما ما يشاء. . . هنالك التاجر المفلس من أقطاب السياسة، والتلميذ الراسب من أقطاب السياسة، والعامل المطرود من أقطاب السياسة، وكل الناس من أقطاب السياسة وزعماء البلد. . . لم يبق تلميذ لدرسه، ولا تاجر لدكانه، ولا محام لمكتبه، ولا طبيب لعيادته، ولا رجل لما خلق له، لكنهم جميعاً للخلاف والتنازع، كل حزب يهدم الأحزاب فتنهدم جميعاً، ويبني العدو ما يبتغي. . . أرى هذا كله من (الجادة الخامسة) فأتألم ولكن لا أتكلم، لم يبق لمثلي مجال للكلام. . .

أرى هذا فأذكر بغداد، وما خلفت في بغداد. . . خلفت فيها النظام والاتحاد والطلاب الذين جعلهم نظام الفتوة جنداً، ونحن المدرسين الذين صرنا ضباطاً لهم شارات الضباط وحياتهم وقانونهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>