يقولون لما أن أتاهم نعيه ... وهم من وراء النهر جيشُ الروادف
شقينا وماتت قوة الجيش والذي ... به تربط الأحشاء عند المخاوف!
له أشرقت أرض العراق لنوره ... وأومن إلا ذنبه كل خائف
ومقصدات الفرزدق ومقطعاته في هذا الباب تخبر بأنه يجيد حين يريد. ومن صالح رثائه أبياته في بشر بن مروان، وختامها:
وكنا ببشر قد أمنّا عدونا ... من الخوف واستغنى الفقير عن الفقرِ
وقد ذكر فيها أنه عقر فرسه على قبره، وقال غير أبي عبيدة: ادعى أنه عقر فرسه ولم يعقره. . .
يقول الأستاذ:(يدل على تخلفه في هذا الباب أنه لما ماتت النوار لم يفتح عليه بما يصح أن يناح به عليها. . .) وقال بشار: (كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير)
وقول الأستاذ المردمي فيه شيء من الحق، وقول بشار معه البُطل. وإذا كان الفرزدق لم يمل عليه شيطانه شيئاً حين هلكت مطلقته النوار التي أشقى صلاحُها طلاحَه الدهر الأطول. . . فهل يدل ذلك على أن لجرير ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق؟ وهل الشعر رثاء وبكاء؟ على أنا إذا جمعنا مراثي الخبيثين - ولجرير اثنتان وعشرون قصيدة ومقطعة، وللفرزدق خمسة وعشرون قصيدة ومقطعة - ووازنا بينها موازنة المقسطين، لم نر جريراً شأى صاحبه إلا برقته في مراثيه لا ببراعة معانيه، والأمر يؤول إلى لين العريكة وقساوة الخليقة. ثم إنه من قلة الإنصاف ألا ترى الرثاء إلا في أن يذكر الشاعر وجوهاً خمشت، وخدوداً لطمت، وشعوراً نفشت، وجيوباً شقت، ودموعاً همرت، والتياعاً وارتماصّاً وأنيناً. . .
إن للشعراء في الرثاء والهجاء والثناء لمجالاً في المقال، وإن البارعين هم المجتهدون المتفننون لا المقلدون المبقبقون. . .
يقول الأستاذ: (على أن له في الرثاء بعض بنيه شعراً يدل على أن الشجي خالط نفسه، والآن عاطفته فنفث حرقة صادقة تشجي السامع كقوله: