أن ذلك لا يمنعه ألا يسأل (هل من راق، لذي إيراق، بات شاكياً من الخيفة باكياً، يسأل ربه غفران الكبائر، والله القابل توبة التائبين؟)(ما أحسنت فأطلب الجزاء ولكن أسأت فمرادي الغفران. ومن لي بالوقفة بين المنزلتين لا أكرم ولا أهان وقد يؤديه هذا السؤال إلى اليأس أحياناً: (كيف أغسل الذنوب وقد صار لونها كسواد اللابة والفداف كلما غسل حجر هذه وريش ذاك ازداد سواداً بإذن الله). فهو يصف مجهوده في محاولة غسل الذنوب، ولكن هذا المجهود يذهب عبثاً لأن الله لا يريد:(ولو شاء لبعث مطراً تبيض تحته اللوب، وطيراً مثل النوب، ولكنه أجرى العادة بما تراه. . . ولكن ما هذا الذي تراه ويعتقد أبو العلاء أنك تراه معه؟ لاشيء إلا أن الله قدره يحتث المنية لتجتث وأنا جاِثم) أو جاِث فانظر إلى أي شيء اتجه ذهن أبي العلاء؟ اتجه إلى الآخرة كذلك والمنية، وهو يخشاها لأنه يجهلها ويفزع منها فزعاً يقرب من فزع الأطفال: فأينما ولى وجهه لم يجد إلا هذه المنية التي تجتث الناس، وهذا الميت ذو الحال المبهم، وتلك الحياة الأخرى الغامضة المرعبة، التي تجد في أمرها. أيثبت ما قالت به الأديان، أم يثبت ما أوحى به عقله؟
في تلك المسألة أيضاً - مسألة الخلود في النار - لا نجد أبا العلاء يثبت شيئاً، وإنما هو متزعزع مضطرب متفائل حيناً، متسائل حيناً، شاك متشائم حيناً آخر!
غير أننا لو تأثرنا شبح الكلام في ذات الله لديه في فصوله والغايات لوجدنا صدى الكلاميين وغيرهم. على أنه يقول:
(لا أعلم كيف أُعبر عن صفات الله وكلام الناس عادَةُ واصطلاح، وإن فعلت ذلك خشيت التشبيه. . .،. . . كيف يوصف بشيء خالق الصفات) فهذا نص صريح لا يحتمل الشك في أنه لا يثبت لله غير ذاته، فليس هو من الصفاتيين في شيء وإنما هو من المعطلة. وقد أثبت أنه (لا أعلم كنهك ولا أهوء) وأن (الله القديم الأعظم، وبحكمه جرى القلم، ألا يخلد عالم ولا علم) ولكنه إن اعترف بكون الله (شاهداً ما غاب ولن يغيب، وقديماً ليس لابتدائه وجود، تقاصر لأوليته طوال الأغمار، كالأخيلة إذا حدثتك عنها النظرة الأولى كذبتها الثانية) فإنه يقرر شيئاً خطيراً إلى ذلك. هو لا يتصور أن الله خلق المادة من العدم أو أنه وجد قبل الزمان والمكان وإنما هو (رأى ما يحدث في هرم الدهر، ولزمان في شرخ شبيبته أيام نعام الكواكب وضائع في الأدحى، ونسورها فراخ في الوكر، وأسدها شبل في